آسيا الوسطى والاتفاق الصيني الأوروبي

00:21 صباحا
الصورة
صحيفة الخليج

جويل رويت *

يشهد العالم تغيرات في التحالفات بين دوله يبرمها الكبار، ويستفيد منها الصغار أحياناً بدون سابق تخطيط، حتى وإن لم تكن معنية أو مستهدفة من تلك التحالفات.

 ويخدم الاتفاق الصيني مع الاتحاد الأوروبي الذي تم التوقيع عليه مؤخراً مجموعة من دول آسيا الوسطى التي لم ينفعها الدوران في فلك الاتحاد السوفييتي السابق، الذي تركها بعد زواله في حالة تشتت تتنافس عليها الدول العظمى ذات المصالح الاستراتيجية المتناقضة غالباً، ولم ينفعها الإفلات من دوامة الشيوعية كما لم ينفعها الدوران فيها.

وبينما تتطلع الصين إلى الأهداف الاقتصادية الجديدة للسنوات الخمس المقبلة التي تم الإعلان عنها في مؤتمر العمل الاقتصادي السنوي في 18 ديسمبر/كانون الأول، تسعى مجموعة دول وسط آسيا للاستفادة من الرابطة الجديدة التي عززت العلاقات بين الصين جنوباً، والاتحاد الأوروبي شمالاً.

 وكان تحسين العلاقات الاقتصادية، وتعزيز التجارة والاتصال بالبنية التحتية مع الاتحاد الأوروبي من بين أولويات الصين لما يقرب من عقد من الزمان.

 تم اتخاذ خطوة مهمة في هذا الاتجاه في عام 2013 عندما أطلقت الصين مبادرة «الطريق والحزام»، التي يتمثل هدفها الأساسي في ربط آسيا بأوروبا، من خلال تطوير مشاريع البنية التحتية على طول المسارات التقريبية لطريق الحرير التاريخي.

 ولا تزال جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، مثل كازاخستان وأوزبكستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان، تعتمد بشدة على روسيا اقتصادياً وسياسياً.

وقد حاولت الولايات المتحدة في البداية اكتساب المزيد من النفوذ في المنطقة، لكن الإرث المؤسسي والثقافي واللغوي للاتحاد السوفييتي أسفر عن استمرار الروابط السياسية الروسية مع تلك الجمهوريات، وزاد من متانتها في بعض الحالات.

 ومنذ انسحاب الولايات المتحدة تدريجياً من العمليات العسكرية النشطة في أفغانستان والعراق، تراجع تدخلها في آسيا الوسطى بشكل ملموس. ونتيجة الأضرار التي ألحقها بها تفشي «كوفيد-19» والانقسامات السياسية الداخلية، فإن الولايات المتحدة ليست في وضع يمكنها من ممارسة نفوذ القوة العظمى في آسيا الوسطى.

 أما موسكو فعلى الرغم من محاولتها الظهور بمظهر القوة العظمى، فلم يكن لديها ما تغري به تلك الجمهوريات الفقيرة، ولم تقدم لأي منها ما تحتاج إليه من استثمارات، ولا حتى رؤية اقتصادية مستقبلية تخرجها من براثن الفقر.

 ولا تزال التجارة تشكل النصيب الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي وهياكل التوظيف في جميع اقتصادات آسيا الوسطى التي تتفاوت من حيث حجمها وإمكاناتها بشكل لافت. فموقعها التاريخي على طريق الحرير هو الذي نشط حركة التجارة العالمية عبر أراضيها. ويمكن الإشارة هنا إلى أن كازاخستان الغنية بالنفط وتركمانستان الغنية بالغاز تمتازان بتنوع بسيط في النشاط الاقتصادي، ومع ذلك لا يزال قسم كبير من السكان في البلدين يعيش في الأغلب على التجارة.

 والسمة الغالبة للنشاط السكاني حتى اليوم هي افتتاح الأسواق والعمل في التجارة الداخلية؛ حيث نشطت مجمعات تسوق وأسواق شعبية في بعض مدن المجموعة، مثل «سوق السلع المستعملة» في كازاخستان، الذي أسسته السلطات السوفييتية عام 1984، واستمر إلى ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وأصبح شريان حياة للعديد من الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم في بداية التسعينيات. وبقي السوق على مدار العقود الماضية، أحد أكثر مشاريع الأعمال نجاحاً في ألماتي، العاصمة، على الرغم من التغيرات الواسعة التي طرأت على أنماط الملكية فيه.

 ولدى الجمهوريات الأخرى أيضاً أسواق عملاقة مماثلة، والتي تشكل نصيب الأسد في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد وهيكل التوظيف، إلا أن كل تلك الأسواق تضررت جداً جراء تفشي الوباء، الذي أسفر عن تراجع الأرباح وتوقف الحركة.

 في ظل هذه الظروف قد يكون الاستثمار والاتصال الإقليمي الحل الأفضل لهذه الجمهوريات الضعيفة، بالإضافة إلى تمتين الروابط مع أوروبا، شريان حياة اقتصادات آسيا الوسطى المتعثرة. وفي حال نجاحها في تعزيز تلك الروابط، يمكن لمشاريع مبادرة «الحزام والطريق» أن توفر فرص عمل، وتعزّز التجارة الإقليمية التي تضررت تاريخياً بسبب الافتقار للبنية التحتية الذي أفقدها الكثير من المزايا لصالح الأسواق الأوروبية.

 من جانبها تراهن روسيا على تحقيق المزيد من المزايا السياسية والاقتصادية، في ظل التوترات التي تستجدّ في المنطقة. وتحتكر روسيا حالياً طرق تصدير الغاز من آسيا الوسطى، وهو ما يخلق ارتباكاً لدول الاتحاد الأوروبي التي تعتمد عليه. ولا شك أن كسر قبضة روسيا على خطوط الأنابيب من خلال إطلاق طريق الشحن عبر قزوين، الذي اقترحته مبادرة الحزام والطريق، يخدم اقتصادات الصين وأوروبا وآسيا الوسطى معاً.

علاوة على ذلك، سيكون لدى الاتحاد الأوروبي إمدادات أفضل من السلع الزراعية عالية الجودة.

 ولا بد من متابعة مدى نجاح مبادرة «الحزام والطريق»، بينما تعيد الصين تقييم سياسات الإقراض الدولية، وقد تتراجع عن بعض خططها، الأمر الذي ينعكس سلباً على استقرار جمهوريات آسيا الوسطى التي دمر الوباء اقتصاداتها. ومع ذلك، فقد أثبت مشروع «الحزام والطريق» أنه أحد أكثر المشاريع طموحاً لمنح جمهوريات آسيا الوسطى فرصة لمستقبل أكثر ازدهاراً.

* أستاذ في معهد الدراسات السياسية الفرنسي. (يورآكتيف)

عن الكاتب:
أستاذ في معهد الدراسات السياسية الفرنسي