الرفاق يتساقطون

00:18 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. مصطفى الفقي

حصد وباء «كورونا» أعداداً هائلة من البشر في أنحاء المعمورة، لكن الشيء اللافت هو أن الموتى ينسحبون من الحياة في صمت وهدوء نتيجة مضاعفات ذلك المرض اللعين، فضلاً عن أمور تتصل بدرجة المناعة لديهم، وقدرة أجسادهم على مواجهة ذلك الغزو الخارجي الخبيث. ولقد لاحظت مؤخراً أن عدداً كبيراً ممن نعرف قد غادروا الحياة دون أن نشعر؛ لأنه لا توجد مآتم كما كان الأمر من قبل، ولا توجد جنازات كبيرة، فضلاً عن أن الإعلان عن الرحيل في زحام الوباء يضيع في ضجيج البحث عن مصادر الوقاية وأسباب العلاج. كما أننا في الأغلب لا نعرف إذا كان الرحيل هو بسبب الفيروس الشرير وحده أم أن الموت قد جاء بسبب أمراض كامنة كشف عنها وساعد عليها وصول الوباء، فليس كل الموتى ب«كورونا» الذي إذا وصل إلى مرحلة الجهاز التنفسي أودى غالباً بحياة صاحبه، ونقله إلى العالم الآخر.
 لقد فقدت شخصياً عدداً كبيراً من الأصدقاء ورفاق رحلة الزمان والمكان ممن انهارت قلاعهم الصحية أمام موجات الفيروس اللعين، لقد رحل مكرم محمد أحمد الكاتب الصحفي الكبير بنهاية تبدو طبيعية لا علاقة ل«كورونا» بها، فالرجل كان يزحف نحو نهاية الثمانينات من عمره، بعد حياة حافلة في السياسة والصحافة والثقافة، ظل طوال عمره كاتباً شريفاً صاحب قلم شجاع وفكر مستنير وعبارة واضحة ولغة مستقيمة. 
ورغم أنه يكبرني بعقد من الزمان إلا أن علاقتي به كانت دائماً وثيقة، وتواصلي معه كان دائماً، وأتذكر عندما انتوى الترشح لمنصب نقيب الصحفيين المصريين في مطلع تسعينات القرن الماضي أن وزير الإعلام الراحل صفوت الشريف لم يكن متحمساً لذلك، فأبلغني مكرم حيث نقلت رسالته إلى الرئيس الراحل حسني مبارك الذي أمر بأن يتقدم مكرم للترشيح، وبالفعل تم ذلك، وانتخب نقيباً لأكثر من دورة، وعندما قامت ثورة 25 يناير/كانون الثاني عام 2011 برز دوره كاتباً أميناً ومحللاً سياسياً واعياً، حتى تم اختياره رئيساً للهيئة العليا للإعلام، والتي أبلى فيها قدر ما يستطيع، رغم وطأة السن ومعاناة المرض.
 وما زلت أتذكر في مطلع سبعينات القرن الماضي أن أصدر نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية اللامع إسماعيل فهمي تعميماً على الدبلوماسيين في وزارة الخارجية، بقراءة مقال عن «الهجرة اليهودية إلى فلسطين» لصحفي شاب اسمه مكرم محمد أحمد، ومنذ ذلك الحين توجهت أنظارنا إليه، وأصبحنا جميعاً من هواة قلمه الذكي وكتاباته المهمة ومواقفه الشجاعة، وأتذكر أيضاً صديقاً آخر، هو الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة المصرية الأسبق، وقد كان الرجل عالماً رصيناً ومتخصصاً في فلسفة الجمال، وله كتب تعتبر مرجعاً في هذا السياق، وقد كان رحمه الله أستاذاً في آداب القاهرة إلى أن طلب منه صديقنا المشترك الأديب الفنان الدكتور فوزي فهمي، رئيس أكاديمية الفنون، الالتحاق بالأكاديمية أستاذاً منتدباً من منصبه في جامعة القاهرة، وقد كان له ما أراد حيث ازداد تألقاً، وأصبحت كتاباته محل تقدير واحترام، إلى أن جرى تعيينه أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة لفترة قصيرة، تولى بعدها منصب الوزارة، وقد تزاملنا في رحلة إلى معرض الشارقة الدولي للكتاب. 
كان معروفاً بالتواضع والبساطة والعزوف عن الأضواء، لقد فقدت برحيله صديقاً عزيزاً، وفقد الوطن شخصية مثقفة رفيعة القدر، وما أكثر من رحلوا في الشهور الأخيرة من أصدقاء العمر ورفاق الرحلة. فأنا ما زلت أتذكر الوزير الفريق د. محمد العصار الذي انسحب من الحياة بصورة مفاجئة، حيث لم يمهله ملك الموت إلا أياماً قليلة، ورحل بسبب مرض طويل كان يعاني منه في صمت وصبر ودون ضجيج، ولقد كان رفيق الصبا في سنوات الدراسة بمدارس دمنهور.
 إنني أتذكر أيضاً الكثيرين ممن قطف «كورونا» أرواحهم أو ماتوا لأسباب أخرى، ولكن لم ينتبه أحد إلى رحيلهم؛ بسبب ظروف مواجهة الوباء والإجراءات الاحترازية، التي تمنع التجمعات وتحول دون إعطاء الراحلين ما يستحقونه من وداع يليق بهم، وتكريم واجب لهم. 
 إننا نواجه عالماً جديداً يأتي كل يوم فيه بما لا نعلم، وربما ما لم نتوقع أيضاً، ويكفي أن نتذكر أن الخيط الرفيع بين الحياة والموت قد أصبح خيطاً ضعيفاً لا يمكن التنبؤ بمن يبقى على يمينه أو من يذهب إلى يساره، كل ذلك في ظل أجواء دولية محمومة وإقليمية ساخنة.
 إننا نبدو وكأننا في حرب عالمية ثالثة دون جيوش أو أسلحة، دون طائرات أو دبابات ولكنها محنة عمر وضائقة حياة وجائحة لا تذكر أجيالنا لها مثيلاً، رغم أن البشرية كانت قد عرفت الأوبئة الفتاكة التي هزمت جيوشاً وأطاحت بالملايين، بدءاً من الطاعون، مروراً بالسل، وصولاً إلى السرطان مع عشرات الأوبئة الأخرى والأمراض القاتلة فيما بينها، ولقد جاء في الذكر الحكيم: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"