شهد العالم العربي في العقد الأخير عودة النقاش حول العلمانية، وكان واضحاً أن صعود التنظيمات الراديكالية هو أحد أسباب عودة هذا النقاش، لكنه ليس بالتأكيد السبب الوحيد، بل كان ربما تمظهراً حاداً لفشل الدولة الوطنية العربية، خصوصاً في المشرق العربي، وما يميز هذه العودة لطرح العلمانية أنها خرجت من إطارها الأكاديمي والفكري، فقد أتاحت ثورة التواصل الاجتماعي إمكانية تعميم النقاش حول شتى الأمور، فكيف الحال إذاً مع موضوع شائك مثل العلمانية، كان قد تعرّض لحالات عديدة من سوء الفهم العام.
عرف العرب خلال محاولتهم تأسيس دولهم الوطنية بعد خروج الانتدابات، أيديولوجيات عديدة، حاولت التوفيق بين المرجعيات الغربية لتلك الأيديولوجيات وبين خصوصية الواقع العربي، وقد كان الهمّ الأكبر والأبرز في هذا المجال هو مواءمة أيديولوجيات وأفكار وجدت في سياق رأسمالي/ ليبرالي غربي مع مجتمعات عربية كانت قد خرجت لتوّها من حكم الانتدابات الغربية، تقوم في تحصيل مواردها على بنى إنتاجية ما قبل صناعية، مع إرث طويل من مخلّفات الاستنقاع التاريخي تحت ظل حكم السلطنة العثمانية الذي دام حوالي أربعة قرون.
وعلى الرغم من أن مفهوم الدولة الوطنية هو بحد ذاته مفهوم حداثي، يحتكم إلى دساتير، تعبّر بطريقة أو أخرى عن العقد الاجتماعي القائم، لكن الدولة الوطنية، في معظم الدول العربية، لم تولد في سياق توافق المجتمعات على عقود اجتماعية بالمعنى السياسي، بل كانت محصلة موازين قوى، كرّست سلطات بعينها، كان هاجسها الوجودي المحافظة على السلطة، ومع ذلك فإن الدساتير العربية تضمّنت في معظم مراحلها بنوداً يمكن القول إنها ذات مرجعية علمانية، وهو أمر طبيعي بنيوياً، فنحن حين نتحدث عن الدولة فإننا نتحدث بالضرورة عن جهاز لخدمة المصالح العامة، يحتكم لمستوى من المعقولية العقلانية.
في الفضاء العمومي العربي، عانى مفهوم العلمانية من اختزال لسياقه المفاهيمي والتاريخي، فقد تمّ اختزال مفهوم العلمانية إلى تعريف بسيط يقول إن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة. هذا الاختزال تمّ استثماره على مدار عقود من قبل جهات سياسية مختلفة، بل إن طرح المفهوم نفسه كان بمثابة «التابو» في مراحل معينة، باعتباره يتناقض مع الثوابت الدينية والعقائدية والثقافية لمجتمعاتنا، لكن حركة الواقع، خصوصاً في العقدين الأخيرين، أكّدت أن تصنيف العلمانية بوصفها «تابو»، لم يكن سوى نقص معرفي ممزوج بحالة من الاستثمار الأيديولوجي والسياسي.
مفهوم العلمانية هو أحد المفاهيم المركبة من مفاهيم أخرى، فهو يرتكز من حيث الأساس على ثلاثة مفاهيم، هي العقلانية والحداثة والكونية، وقد لعبت العقلانية الدور الرئيسي في تطور العلوم وتفسير الظواهر العلمية والطبيعية والاجتماعية، فمنذ القرن السادس عشر عملت العقلانية على إعادة قراءة الظواهر على أساس أنها (أي الظواهر) قابلة للفهم، وأنها نتيجة لأسباب، وخاضعة لقوانين يمكن إدراكها بالعقل، وليست خاضعة لأسباب غيبية عليا، وما خلاصة تطوّر العلوم التي نعرفها اليوم إلا ثمرة من ثمرات العقلانية.
كما أتاحت الحداثة، منذ القرن الثامن عشر، إمكانيات كبيرة أمام بناء منظومات حكم، قائمة على عقد اجتماعي، يرتكز إلى مصالح البشر وقيمهم وحقوقهم، وهي جميعها قابلة للتطوّر، وقد عززت الحداثة بهذا المعنى من مكانة الفرد إزاء الجماعة والدولة معاً، وهو ما يجعل من سياق المواطنة مقترناً بشكل متلازم مع سياق الحداثة، ما أدى إلى صياغة تعريف الدولة الحديثة بوصفها دولة مواطنين، لا دولة رعايا، وفي هذه الدولة، فإن السلطة السياسية تغدو بطريقة ديمقراطية تمثيلية تعبيراً عن مجموع إرادات المواطنين.
ومع الكونية، ألغت المعرفة الكثير من الخصوصيات ذات الطابع الأيديولوجي، بل إنها عممت في السياق الرأسمالي إمكانية التمتع بمنتجات المعرفة، ونحن نشاهد كيف تنتقل المعارف اليوم بسرعة مذهلة من مكان إلى آخر، وكيف يتم تعميم منتجاتها، لتنعم بها شعوب أخرى لم تنتجها، وأصبح هذا التبادل الكوني للمعرفة أحد خصائص حياتنا المعاصرة، كما أن عبور الثقافات ومحمولاتها بين الشعوب أصبح أمراً أكثر يسراً بفضل المنتجات المعرفية.
هل يمكن للعرب أن يخرجوا من أزماتهم ويدخلوا المستقبل من دون العقلانية والحداثة والكونية، أي من دون العلمانية؟
الجواب على هذا السؤال سيحدد إلى أبعد حد مكانة العرب في المستقبل، فتعثرهم في العقود الماضية هو نتيجة تعثر في تبني العقلانية والحداثة والكونية، أي تبني العلمانية، مع التأكيد على أن العلمانية من دون الديمقراطية ستتحول هي الأخرى إلى ممارسة أيديولوجية.