توظيف الأموال

00:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

من لم يشهد أزمة شركات توظيف الأموال في مصر نهاية الثمانينات من القرن الماضي شاهد الأعمال الفنية الدرامية التي تناولتها أو جاءت الأزمة في سياقها. كانت أزمة معبرة فعلاً، بشعاراتها الدينية وممارساتها المالية الاحتيالية، عكست حال المجتمع المصري بل والعربي كله وقتها: الرغبة في الربح السريع الهائل من دون أي جهد، ونفاق تبرير النصب والفساد بغطاء ديني مزيف. كما كانت أيضاً نموذجاً لتحالف الفاسدين في السلطة مع المحتالين ممن يسمون رجال أعمال مع رجال الدين المنافقين الانتهازيين.
 انفجرت موجة تلك الشركات، واشتهر منها الريان والسعد، وكانا الأكبر حجماً بما جمعاه من مليارات من بسطاء المصريين، بعد نحو عقد مما سمي وقتها «الصحوة الدينية» التي كانت عودة مظهرية إلى قشور التدين دون أخلاق أو تحلٍ بمعاملات الدين الحنيف. أوحت الشركات لأبناء الطبقة الوسطى بأن يسلموها «تحويشة العمر» لتستثمرها لهم بطريقة «حلال» توفر لهم عوائد خرافية. وتزاحم الناس في طوابير ليودعوا أموالهم لدى الريان والسعد وغيرهما. كل ما كان يفعله هؤلاء، المضاربة في البورصات العالمية، وحين انهارت مراكزهم الاستثمارية اكتشف الناس أن ثرواتهم ضاعت حتى مات البعض كمداً من الصدمة.
 هذا الأسبوع، شهدت الولايات المتحدة أكبر قضية احتيال في سوق العملات المشفرة نصب فيها مروجون لطريقة استثمار في بيتكوين على المواطنين بنحو ملياري دولار. على الأقل هذا ما جاء في الدعوى التي رفعتها لجنة الأسواق والأوراق المالية الأمريكية أمام محكمة في منهاتن ضد مجموعة من مروجي مشتق رقمي للمضاربة على بيتكوين. وفي ما يشبه حكاية شركات توظيف الأموال في مصر، بدأت المسألة بتأسيس شخص هندي عام 2016 طريقة تداول أوتوماتيكي في العملة المشفرة بيتكوين سماها بيتكونيكت. وبدأ الأمريكيون المدعى عليهم من لجنة الأسواق الترويج لها بإقناع المواطنين بوضع مدخراتهم في بيتكونيكت على أن يضمنوا لهم عائداً شهرياً بنسبة 40 في المئة! فقط عليهم أن يتركوا أموالهم لمدة تصل إلى 10 شهور. في 2018 منعت السلطات في ولاية تكساس الاستثمار في ذلك المشتق بيتكونيكت، لكن مروجيه استمروا في الدعاية له وأخذ أموال الناس عن طريق تحويلات بشكل يلتف على قرار الولاية.
 في النهاية خسرت بيتكونيكت 95 في المئة من قيمتها، ومع انهيارها خسر كثير من المودعين فيها كل ما يملكون من ثروة وتربح هؤلاء المروجون، بالضبط كما حدث مع الريان والسعد في مصر.
 لا شك أن هذه القضية القانونية الأمريكية ستعزز وجهة نظر من يرون أن العملات المشفرة ما هي إلا فقاعة تنتفخ بشدة بسبب رغبة أجيال جديدة من مستثمري البورصات الساعين للربح السريع الكبير بالمضاربة والمغامرة. وتتزامن القضية في أمريكا مع توجه رسمي في بريطانيا لتحذير الناس من التعامل في بيتكوين والمشفرات الأخرى وأنهم قد يخسرون ببساطة كل ما يملكون من ثروة.
في الآونة الأخيرة، بدأت بعض البنوك في بريطانيا تفرض قيوداً أشد على التحويلات والمدفوعات من حساب عملائها لشركات تداول العملات المشفرة. وتعمل السلطات المالية في بريطانيا على اعتماد إجراءات جديدة للتدقيق في نشاط تلك الشركات بعدما تصاعد القلق من أن سوق العملات المشفرة مجرد بيئة نشطة لغسل الأموال وجرائم احتيال مالي. وأهمية هذه الإجراءات البريطانية أنها تعكس مشكلة حقيقية في قطاع المشفرات، حيث إن بريطانيا تعتمد كثيراً على قطاعها المالي وتعد متساهلة إلى حد ما مع من يجلب أموال المستثمرين إليها حتى لو كانت من مصادر غير قانونية تماماً. ومعنى أن تشدد القيود على العملات المشفرة أن هناك مخاطر حقيقية في هذا القطاع لا يمكن التساهل معها.
 مع ذلك، لن تختفي العملات المشفرة ولن يتوقف التداول فيها – فقط قد تصبح منظمة أكثر وخاضعة لقواعد وقوانين الأسواق والتعاملات المالية للنظام المالي التقليدي. كما أن «توظيف الأموال» لن يتوقف، وسيظل هناك من يمكنه أن يحتال على بسطاء الناس موهماً إياهم باستثمار مدخراتهم مقابل عائدات ضخمة ثم يتبخر كل شيء. ومن يتابع وسائل الإعلام المصرية في الأشهر الأخيرة سيحصي عدداً كبيراً من حالات النصب والاحتيال بطريقة توظيف الأموال جمع فيها كثيرون مئات الملايين بطريقة لا تختلف عن الريان والسعد وبيتكونيكت.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"