مع اقتراب الانسحاب النهائي للقوات الأمريكية والأطلسية من أفغانستان، عادت حركة «طالبان» لمهاجمة مراكز الحكومة في أقاليم عدة، والتي راحت تسقط تباعاً في يد الحركة، من دون أن تُظهر القوات الحكومية أية فاعلية تُذكر في الدفاع عن سيادة الحكومة وشرعيتها. هذا الهجوم الكاسح لمقاتلي الحركة لا يُظهر فقط قوتها؛ بل يظهر بالدرجة الأولى أن الاستقرار الأفغاني كان استقراراً مصطنعاً وهشّاً، ومضبوطاً على إيقاع القوّة الخارجية، وأن مجهود وأموال سنوات طويلة من الدعم الذي حظيت به الحكومة وقواتها لم تكن كافية لبناء السلام بين المكونات السياسية المحلية، واجتراح نظام حكم قابل للاستدامة.
أسئلة الدرس الأفغاني كثيرة وحاضرة منذ نحو ثلاثة عقود؛ لكنها تبقى أسئلة راهنة، ليس فقط لأن الإجابات عنها كانت قاصرة من قبل القوى والجهات الإقليمية والدولية؛ بل لأن الدرس الأفغاني قابل في الكثير من تفاصيله للتكرار في غير مكان من العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط وإفريقيا؛ حيث تداعت في العقد الأخير دول عدة، مع حركة تدخل خارجية نشطة، وعودة التطرّف والراديكالية بصور لا تقل في بنيتها وشكلها عن «طالبان»؛ بل ربما في صورة أكثر وحشية، كما في «داعش»، مع غياب أي أفق لحلول سياسية وطنية، ما يترك مستقبل عدد من الشعوب والمجتمعات مجهولاً.
هناك ما يجافي منطق الاكتفاء والنمو والاستقرار في بلد مثل أفغانستان؛ من حيث المساحة الكبيرة، التي تصل إلى أكثر من 650 ألف كيلومتر، مع عدد قليل نسبياً من السكان (نحو 35 مليون نسمة)، وحدود مع عدد من الدول، بما يتيح لها أن تكون ممراً تجارياً برياً نشطاً، يدر عوائد مالية تساعد في حدوث نهضة اقتصادية ومدنية، كما أن أفغانستان تمتلك مخزوناً غير مستثمر من الثروات الأحفورية، من نفط وغاز، تقدّر بأكثر من تريليون دولار أمريكي، إضافة إلى وجود تنوع في الثروات المعدنية، من ذهب ونحاس وحديد، ومعادن أخرى، وكل هذه العوامل تجعل من هذا البلد قادراً على تأمين احتياجاته الاقتصادية والمعيشية، خصوصاً إذا ما أضيفت إليها الإمكانات الزراعية، في ضوء المخاوف المتزايدة من تقلّص إمدادات الأمن الغذائي العالمي.
قرن كامل منذ الاستقلال عن بريطانيا في عام 1919، لم تعرف أفعانستان استقراراً طويلاً، خصوصاً أنها، بموقعها الجغرافي، أصبحت نقطة تجاذب بين الاتحاد السوفييتي والغرب في زمن الحرب الباردة، ما استدعى تدخلاً عسكرياً مباشراً من القوات السوفييتية في عام 1979؛ لدعم حكومة محمد نجيب الله الشيوعية، لكن هذا التدخل لم يؤمن الاستقرار؛ بل أسهم في زيادة اشتعال وتمدّد الحرب الأهلية، وتحول هذا البلد إلى ميدان صراع بالوكالة بين الغرب والاتحاد السوفييتي، وزيادة مستوى الانقسامات المذهبية والإثنية، ونشوء حركات تؤمّن تمويلها ودعمها من قوى خارجية.
ما يقارب خمسة عقود من الحرب والفوضى والتدخل الخارجي، خمسة عقود من الدم المهدور تحت مسميات ورايات عديدة، وموجات لا تتوقف من اللجوء إلى دول الجوار أو الغرب، وفشل دولي في تحقيق أي مستوى من التوافق على دعم مسار أفغاني وطني، يؤسس لعقد اجتماعي ينال قبول ورضا معظم الأفغان، وبناء دولة وطنية ما فوق المذهبية والإثنية؛ بل إن نتائج التدخل الخارجي متعدد الأطراف قطع الطريق على أي توافقات وطنية، فقد أصبحت معظم الحركات السياسية المحلية تعمل بدلالات المصالح والتجاذبات الإقليمية والدولية.
الزمن الأفغاني يبدو مضاداً لحركة التاريخ، فكلما لاحت في الأفق بوادر المضي نحو الأمام، ظهرت معطيات جديدة تجعله يستدير نحو الوراء، ليغرق من جديد في الدم والفوضى، وكأن قدر هذا البلد أن تبقى ساحة مفتوحة للصراعات، لا هو قابل للتوحيد، ولا هو قابل للتقسيم النهائي، وقد جرّبت قوتان أن يجعلا من أفغانستان استثماراً استراتيجياً (الاتحاد السوفييتي وأمريكا)؛ لكنهما فشلتا سياسياً وعسكرياً، ولئن كان خروج الأولى منه واحدة من أهم الإشارات على انهيارها، فإن خروج الثانية ليس إلا نتيجة لتحوّل اهتماماتها الاستراتيجية، لكن في الحالتين، فإن الشعب الأفغاني هو من يدفع ثمن أوهام قواه السياسية، وطموحات الخارج وصراعاته.
من سيملأ الفراغ السياسي والعسكري بعد رحيل القوات الأطلسية؟
المؤشرات الأولى تشير إلى الجارتين الصينية والإيرانية، لكن ليس من المتوقع أن تكون النتائج أفضل حالاً من التدخلات السابقة؛ بل على العكس من ذلك تماماً، فمعطيات الاكتساح «الطالباني» التي برزت مؤخراً تقول إن بوصلة أفغانستان لا تزال تتجه نحو الماضي، وأنها في طريقها إلى كتابة فصل جديد من فصول حروبها الأهلية.