السلطة العميقة في العالم الافتراضي

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.خليل حسين *

ربما المصطلح الأوسع انتشاراً هذه الأيام هو «الدولة العميقة»، والمقصود بها السلطة العميقة التي تدير تفاصيل القرارات التنفيذية، وحتى تتدخل وتصل إلى تكوين بيئات قانونية، وحتى قضائية لتشكل شبكة حماية وأمان لمجمل رؤاها وسياساتها وغاياتها في مختلف النظم والمجتمعات الواقعية، مروراً بالكيانات التي تتمتع بالشخصية المعنوية وصولاً إلى العالم الافتراضي ووسائله وأدواته التي باتت جزءاً رئيسياً من الحياة اليومية المعيشة للبشر.

ما حصل في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، في العالم الافتراضي، اعتبر سابقة لجهة شمولية الحدث، ومدى اتساعه وتأثيراته وتداعياته المختلفة. فهو لا يعدو كونه عطلاً تقنياً أو فنياً بشرياً، أو غير ذلك، بقدر ما هو مؤشرات يمكن أن تؤسس لسياقات سلوكية مغايرة، ويمكن أيضاً أن تتنامى وتشكل بيئات أشد خطورة على المجتمع البشري وطريقة حياته وتعاطيه اليومي معها.

فالمشكلة التي أصابت شركة ال«فيس بوك» وما تستحوذ عليه من تطبيقات مثل ال«إنستغرام»، و«الواتس أب» وغيرها، عطلت وجمدت اتصالات مليارين وسبعمئة مليون إنسان وكيان، أي ما مجموعه ثلث البشرية، وهو رقم مهول في حسابات تلك الأعمال والقيم التداولية الفعلية؛ كما وصلت التقديرات لمجمل الخسائر الأولية لأسهم الشركة إلى 6%، أي ما يوازي تقريباً 7 مليارات دولار خسائر لصاحب ال«فيس بوك»، عدا عن حاملي الأسهم، إضافة إلى السلع والمنتجات المتداولة عبر التطبيقات المختلفة، ذلك كله خلال ساعات معدودة لا أكثر، ما يطرح أسئلة محورية يجب البحث عن إجابات لها.

في المبدأ، لا مفر ولا مناص من الأخطاء التقنية أو الفنية الناجمة عن عمل بشري، أو نتيجة ثغرة طارئة في البرامج والتطبيقات، وهو أمر وارد ومعرّض له في أي لحظة، إلا أن من غير الواضح، أو حتى غير المقبول، أن تبقى تلك الأحداث مجرد حدث عابر لا يتوقف عنده، فنوعية العطل هو مريب، ولم يتم الإفصاح عنه، سوى ببيان مقتضب لا يتماثل مع حجم الكارثة التي تسبب بها العطل، كأنه حدث عادي يمكن أن يمر بلا تدقيق أو احتساب، فيما، واقعياً، وصل الأمر إلى مؤسسات ومواقع حساسة لها علاقة بالأمن البشري ومستلزماته، ما يثير أسئلة حول من المسؤول، ومن يدير الأمر في المستويات الاستراتيجية العليا.

في الأحداث السابقة كانت تسند القضايا إلى «الهاكرز»، بمختلف مشاربهم وميولهم ودوافعهم ومن يقف وراءهم، أما اليوم فالموضوع مختلف، فهو بحجم مؤسسة تقف خلفها سلطة عميقة دخلت إلى العمل الافتراضي الدولي بكل جرأة، وهي تدرك ماذا تفعل، والى أين ستصل، وما تريد. هذه السلطة تدير حروباً تكنولوجية متعددة الطبقات والمستويات، كما تدير منافسات اقتصادية وصلت إلى مستويات الصراعات، وإن لم تصل إلى مستويات عسكرية، ورغم ذلك فهي أشد قساوة وفتكاً لما يمكن أن تصل إليه من شمولية واتساع في الأضرار العامة.

إن دخول السلطة العميقة في العوالم الافتراضية التي يتعاطى معها البشر، هو مؤشر خطر له دلالات من نوع آخر لا يمكن تجاوزها، أو التدقيق فيها، فهو عدو غير مرئي يتعاطى مع الواقع بوسائل افتراضية شديدة الضرر، وحجم ما تحدثه لا يمكن لمجتمع بعينه تحمّله، أو حتى تفادي نتائجها إن أمكن.

أما الأغرب في الموضوع، فهو طبيعة التعاطي مع الحدث، فعادة، وهو ما جرى، حدث أصاب أكثر من ثلث البشرية في صميم علاقاتها ووسائل حياتها المعيشة، وهي في الوقت نفسه مكبّلة اليدين تنتظر من يحل المشكلة، وهي بيد قلة قليلة من الخبراء لهم مصلحة مباشرة في التحكم والاستثمار، وعليه فإن حجم القلق عند التدقيق فيه يفوق التصور، بخاصة إذا لامست هذه الأعطال البيئات المتصلة بأمن ومستقبل حياة البشرية والإنسانية جمعاء. إنها ضريبة القرية الكونية التي تغنينا بها، ولا نزال.

* رئيس قسم العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"