ضرورة تبني سياسات نقدية جديدة لمواجهة التحديات

21:33 مساء
قراءة 4 دقائق

يانيس فاروفاكيس *

في الوقت الذي تتراجع فيه جائحة «كورونا» في الدول المتقدمة، فإن البنوك المركزية فيها تعاني حالة من التخبط والتيه؛ إذ إن صناع السياسات الذين تنتابهم الحيرة بين التوترات التضخمية والخوف من الانكماش يتبنون نهج الانتظار وترقب ما قد يحصل، وهو نهج قد يكلفهم غالياً، في حين أن إعادة التفكير بشكل أكثر انفتاحية وبأدواتهم وأهدافهم المرسومة، يمكن أن يساعدهم في لعب دور مفيد اجتماعياً بعد انتهاء الجائحة.

لطالما امتلك مسؤولو البنوك المركزية في الماضي أداة واحدة تتمثل في أسعار الفائدة، وكانوا يخفضونها بغرض إعادة تنشيط اقتصاد متعثر، أو يرفعونها لغرض كبح جماح التضخم، ولكن اتخاذ قرارات تتعلق بتوقيت تلك التحركات وإلى أي مدى يمكن تحريك تلك الأداة لم يكن عملية سهلة على الإطلاق، ولكن على الأقل كان هناك توجه أحادي إما صعوداً أو هبوطاً. أما اليوم فإن مهمة مسؤولي البنوك المركزية أصبحت أكثر تعقيداً بسبب أنه ومنذ العام 2009 أصبح لديهم أداتان يمكنهم التلاعب بهما.

لا شك في أن وجود أداة ثانية أصبح أمراً ضرورياً في أعقاب الأزمة المالية العالمية في العام 2008 بسبب أن الأداة الأصلية تعطلت إلى حدٍّ ما، وعلى الرغم من أنه قد تم خفضها إلى أبعد حد ممكن مما دفع بأسعار الفائدة إلى الصفر ودفعها في كثير من الأحيان إلى المنطقة السلبية، إلا أن الاقتصاد استمر في الركود. لقد تعلمت البنوك المركزية الرئيسية من تجربة بنك اليابان، وقامت بإنشاء أداة أو رافعة ثانية تعرف باسم التيسير الكمي، علماً أن زيادتها كانت تخلق الأموال لشراء أصول ورقية من البنوك التجارية، على أمل أن تقوم البنوك بضخ الأموال الجديدة بشكل مباشر في الاقتصاد الحقيقي، حتى ولو أدى ذلك لظهور التضخم، فكل ما يحتاجون إليه هو تخفيض الأداة والتقليل من مشتريات الأصول.

لقد كانت تلك النظرية هي السائدة خلال الفترة الماضية، أما الآن وبعد أن أصبح التضخم يلوح في الأفق أصبحت البنوك المركزية تشعر بالعصبية، مما أدى إلى تخبط كبير حيال الخطوات التالية التي يتعيّن اتخاذها، فلو لم يقوموا بذلك فإنهم يمكن أن يتوقعوا نفس السيناريوهات التي حدثت في سبعينات القرن الماضي؛ حيث تُرك الأمر للتضخم لأن يصبح جزءاً لا يتجزأ من ديناميكية الأسعار والأجور، وفي حال تم تحريك الأداتين في اتجاهين متعاكسين بنفس الوقت، فإن ذلك يمثل مخاطرة كبيرة تتمثل في إثارة أزمتين في وقت واحد، أولاهما القضاء على محرك خلق الوظائف، بسبب أن رفع أسعار الفائدة يعمل على تخفيض الطلب الكلي ويؤثر سلباً على الاستثمار، بالإضافة إلى حصول انهيار مالي بسبب أن الأسواق والشركات التي أصبحت مدمنة على أموال التيسير الكمي السهلة ستصاب بالذعر من احتمالية الانسحاب. إن حالة الذعر التي حدثت في العام 2013 بعد اقتراح الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عزمه تخفيض برامج التيسير الكمي، تعتبر محدودة مقارنة بحالة الذعر التي قد تحصل في الوقت الراهن.

تعيش البنوك المركزية حالياً كابوساً مزعجاً، بسبب أن ذلك يجعل الأداتين التي يمكن استخدامهما عديمتي الفائدة، فعلى الرغم من أن أسعار الفائدة كانت سترتفع، إلا أنه لا يزال هناك حيّز ضيق لخفضها، وستكون المبالغ الباهظة سياسياً من التيسير الكمي ضرورية لإعادة إنعاش الأسواق المالية الغارقة، وعليه لا يزال المشرعون في حيرة من أمرهم. ونظراً لأن إعادة هيكلة الدين العام والخاص هي أمر لا يمكن تجنبه، يتوجب على البنوك المركزية التوقف عن محاولة تجنب ذلك؛ حيث إن الإبقاء على المعدلات الصفرية لأسعار الفائدة بهدف تمديد إفلاس الكيانات المعسرة مثلما كان الحال مع اليونان أو إيطاليا، هو رهان خاسر بلا شك، وبدلاً من ذلك، يتعين عليهم إعادة هيكلة الديون المعدومة ورفع أسعار الفائدة لمنع نشوء المزيد من تلك الديون المعدومة.

وعوضاً عن إيقاف برامج التيسير الكمي تماماً، فإن الأموال التي ينتجها يجب أن يتم توجيهها بعيداً عن البنوك التجارية وعملائها من الشركات التي أنفقت معظم الأموال التي حصلت عليها من تلك البرامج على إعادة شراء الأسهم؛ إذ إن هذه الأموال يجب أن تكون على شكل تمويلات للدخل الأساسي والتحول الأخضر، كما أن مثل هذا النوع من التيسير الكمي لن يكون تضخمياً لو تم فرض المزيد من الضرائب على الدخل الأساسي للطبقة المتوسطة العليا وما فوقها، ولو بدأ الاستثمار الأخضر في إنتاج الطاقة الخضراء والبضائع والسلع الأساسية التي تحتاج إليها البشرية.

من المؤكد أن البنوك المركزية غير ملزمة بالاختيار بين الشلل التام والانكماش؛ إذ إن وجود سياسة نقدية تقدمية من شأنه رفع أسعار الفائدة، وتحقيق عوائد استثمارية جيدة، والالتزام بالمسؤوليات الأخرى المتمثلة في العمل المناخي وتقليص عدم المساواة، وتبني نهج جديد يمكن وصفه بالتشديد النقدي المستدام.

* وزير المالية اليوناني سابقاً، وأستاذ الاقتصاد بجامعة أثينا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

وزير المالية اليوناني سابقاً، وأستاذ الاقتصاد بجامعة أثينا

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"