تراجع حضاري مركب

01:15 صباحا
قراءة دقيقتين

كُتب كثيراً عن انحطاط الحضارة الغربية، ودارت معظم هذه الكتابات حول رصد عوامل الضعف في تلك الحضارة، ومن مختلف الزوايا: الاقتصادية والثقافية وصولاً حتى إلى تراجع القدرة على الكتابة بلغة سليمة.

وتكمن ميزة كتاب «المجتمع المنحط..كيف صرنا ضحايا نجاحاتنا؟» للمفكر الأمريكي روس داوثت إلى اكتشاف عوامل تدهور هذه الحضارة من زاوية مختلفة، فالغرب الآن وفي مقدمته الولايات المتحدة برغم الركود الاقتصادي الواضح، إلا أنه يبدو في الظاهر في ذروة الازدهار، ولكنه بحسب داوثت «ازدهار زائف»، فالقضايا الكبرى التي تواجهها البلدان المتقدمة معلقة: تغيرات المناخ، الهجرة، واستغلال الموارد الطبيعية..الخ، ولكن ما يشعر الآخرين بأن الغرب لا يزال يهيمن على العالم عدة عوامل خادعة، منها تماسك المجتمعات الغربية، حتى في ظل المشاكل الاقتصادية، بسبب تراكمات ومكاسب حققتها دولة الرفاه، ومنها التقدم العلمي الفائق هو تقدم ليس في صالح البشرية على المدى الطويل ومنها الإعلام، وهيمنة ثقافة الاستعراض «مجتمع الشو»، كما أطلق عليه الكثير من المحللين.

ما يستوقف قارئ الكتاب ذلك الحس الخلدوني الذي يقبع خلف صوت المؤلف، فالأخلاق المتدنية والشره إلى المال وثقافة تروج للاستمتاع بالحياة فقط، وحب الشهرة..كلها عوامل تؤكد أن تلك الحضارة تسير ببطء إلى نهايتها الحتمية، وكلها قيم سلبية تضرب بقوة في جنبات الغرب وتزايدت خلال العقود القليلة الماضية.

ما يهم القارئ العربي في هذا السياق هو «حضارتنا نحن»، فبرغم عصف فكري طويل ميز ثقافتنا منذ مطلع القرن التاسع عشر للوصول إلى مركز حضاري مرموق يليق بنا، إلا أننا لم نصل إلى ما نصبو إليه، أي أننا لا نزال ننتمي إلى الأطراف الحضارية أو الهامش، ندور في فلك المركز «الغرب»، وحتى الآن يؤمن معظمنا فكرياً، برغم أننا نقرأ داوثت وغيره، بازدهار الحضارة الغربية، ليس هذا وحسب بل إننا في الواقع نعاني سمات متطابقة إن لم تكن مستنسخة من مشاكل تلك الحضارة، لا أقصد قضاياها الكبرى، المناخ وغيره، ولكننا نعاني انهياراً ثقافياً مركباً، مرة بسبب الاستهلاك الضخم للمنتجات الثقافية الغربية، واستنساخنا لمجتمع «الشو» برغم أننا ننتمي اجتماعياً لما يطلق عليه «مجتمعات محافظة»، ومرة بسبب تراجع احترامنا لثقافتنا نحن.

لن تجد أكثر من العرب تكراراً لمقولات تعظم التاريخ واللغة والقراءة، وهنا بإمكان المعايشة الواقعية لأي مثقف، أو العودة إلى أي تقرير يعاين معدلات أدائنا في هذه الحقول الكشف عن زيف هذه المقولات. أما الحالة الذهنية ففي أسوأ حالاتها، لم يعد أحدهم يسأل كيف نتقدم؟ أو حتى لماذا نحن لا نزال في أطراف الحضارة؟ حتى ولو من باب الشهرة، فهذه الأخيرة هربت من النخب الثقافية إلى من يطلق عليهم «المؤثرون اجتماعياً».

يتحدث الكثيرون عن التاريخ البديل، ولكن ماذا عن المستقبل البديل؟ ماذا يحدث لو انهار الغرب فجأة؟ لنبتعد قليلاً عن تعقيدات النتائج السياسية والاقتصادية، ولنلتفت إلى الثقافة - الحضارة، سنفقد ما نستورده من فنون وأفكار، ولكن هل يوجد لدينا، وبأمانة، بديل؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"