عادي

الصورة بطلة المشهد

21:51 مساء
قراءة 7 دقائق
1

استطلاع: نجاة الفارس

كيف تتشكل ذائقة العصر الأدبية؟ وما الذي يؤدي إلى ازدهار الشعر في حقبة، والرواية في حقبة أخرى؟ هل التعليم...هل النقد...هل الإعلام ؟ يؤكد عدد من الكتّاب والنقّاد أن ذائقة العصر الأدبية تتشكل من خلال تراكمات ما يمرّ على الإنسان في حياته اليومية، وأن النقد والإعلام والتعليم يتحملون أسباب ازدهار أو ذبول أي لون فني، وأضافوا ل «الخليج» أن مساحة القراءة تقلصت، لمصلحة الصورة المرئية.

يقول الشاعر الدكتور طلال الجنيبي: «كل ما يمر على صاحب الإنسان من تجارب ومعطيات إنما هو معين يتجمع في الذات.. في اللاوعي ويتكتل في داخل الإنسان، مما يشكل الذائقة الأدبية في طورها الأول، ثم يضاف إليها ما قرأه الإنسان وما مرّ عليه وما تعلمه حتى يكون ذلك الغلاف الذي يغلف المضمون فيكون ذلك المزيج ذائقة العصر الأدبية».

ويضيف: «أما بالنسبة لما يؤدي لازدهار الشعر في حقبة، والرواية في حقبة أخرى، فالمسألة تخضع لمعطيات كثيرة، لكن يبقى أهمها على الإطلاق أن الناس أصبحت تفتقد التفاصيل في حياتها بسبب وتيرة الحياة المتسارعة، والشعر كما تعلمون هو مساحة تكثف الصور وتمنح الإنسان ذلك المنتج الإبداعي الذي يقدم لنا الصورة الملخصة، بعكس الرواية التي فيها انفتاح لمساحات وتفاصيل يفتقدها الإنسان في هذه الحياة المتسارعة التي تقدم لنا كل شيء، بشكل ملخص مقتضب، فيأتي الإنسان إلى منطقة الرواية، وهذا هو أهم الأسباب التي أدت إلى ازدهار الرواية الآن، إن جميع العناصر من تعليم ونقد وإعلام تسهم بصورة ما في إعطاء شكل من أشكال الإبداع زخمه، البعض يقول إننا نعيش اليوم عصر الرواية مع تراجع الشعر، مع أنني أعتقد أن المسألة ليست مسألة تنافس فلا يكون تقدم الرواية على حساب تراجع الشعر أو العكس صحيح، لكن ازدهار الرواية اليوم لأسباب ذكرنا بعضها الآن، ويبقى الشعر هوية مختلفة مفصلة وديوان العرب القديم القدير الذي لا نستطيع التخلي عنه، وإن تراجع مرحلياً أمام الأشكال الأخرى بسبب طبيعة العصر كما ذكرت، ولكن يبقى ذلك الكائن الإبداعي المختلف الذي مهما تراجع وانحنى قليلاً في وجه التحديات، فإنه هو ديوان العرب الذي سيبقى دائماً معبراً عن هويتهم على مدى العصور وستبقى له مكانته التي لا يستطيع أن ينكرها أي منصف».

دور كبير

الدكتور إياد عبد المجيد أستاذ الأدب العربي ونقده، يقول: «تؤدي عدة عوامل إلى تشكل الذائقة الأدبية، فالمجتمع يؤدي دوراً كبيراً كما وسائل الإعلام المختلفة، فضلاً عن وسائل الاتصال الحديثة، وأصبح للمكان والبيئة والطبيعة الدور الأكبر في تشكيل ثقافة العصر الأدبية، ونستطيع القول إن الذائقة الفنية للفرد أو للمجموع تتشكل عبر إطار تراكمي من الخبرة الإنسانية الحياتية والبيئية، ولا يمكن أن نتصور وجود ذائقة فنية من دون أعمال فنية إبداعية راقية، وبالمثل، لا توجد ذائقة فنية دون وجود جمهور واعٍ، لديه المقدرة على إدراك الأعمال الفنية واستيعابها وفهمها وتذوقها».

ويؤكد الدكتور عبد المجيد أن الشعر لا يزال ميداناً رحباً من ميادين الإبداع فهو ديوان العرب، وله دوره الفاعل في الحياة الثقافية المعاصرة، ولا يزال الشعراء صامدين بوجه ما يثار بين الفينة والفينة أننا في زمن السرد، فالشعر لم يتراجع، رغم كثرة أشكاله، وما عاد المتلقون يسعون وراء منابر الشعراء، وقد أتاحت التقنية الحديثة للشعراء منصات مختلفة يؤكدون حضورهم فيها، على الرغم من أن الإعلام اليوم ما عاد يهتم بالشعر بالشكل المطلوب، وقد يعود ذلك إلى قلة اهتمام المجتمع العربي بالثقافة إجمالاً، ربما تراجعت نسبة القراءة عند الشباب، وبات الناشرون يلهثون وراء الربح فأصاب الذائقة عطب من كثرة الرديء الذي ينشر شعراً أو رواية، والقارئ الجيد اليوم الذي يطور ذائقته يستطيع أن يميز ذلك، ولكل فنٍ قرّاؤه ومتلقوه، قد يسعى البعض ومنهم الناشرون إلى ترسيخ فكرة أن العصر هو عصر الرواية ترويجاً للمؤسسات التي تمنح الجوائز، فالشعر أيضاً له مؤسساته، فإن غاب زمناً في مجتمعنا العربي فله الفخر أنه عربي وله جذوره الممتدة في الزمن، وأرى أن هناك جهلاً لدى بعض المتلقين باللغة المكثفة التي يحتاجها الشعر ومعانيها وأسلوب الشاعر المبدع وانزياحات لغته وصوره ما يخلق جفاء بينهم وبين النص، وكل هذا يعود للعصر والحياة ووتيرتها الشائكة وانشغال الناس، فالشعر لا يزدهر إلا إذا ازدهرت قلوب الناس بالمحبة واهتم الناس بالقراءة، واهتم النقاد به تحليلاً ودرساً وعناية، وهذا مسؤولية التعليم أولاً كي نخلق ذائقة للمتلقين منذ الطفولة، ثم مسؤولية النقد الأدبي، فضلاً عن الإعلام، ومن يقول إن الشعر يتوارى لصالح الرواية، وأننا «نعيش زمن الرواية» فهؤلاء إنما يتجهون إلى القارئ العادي؛ لأن جماليات الشعر الجيد عصية على المتلقي غير المثقف.

انتقائية

الشاعرة غالية حافظ، تقول: «تختلف الذائقة الأدبية من شخص لآخر حسب ميوله واختلاف الزمان والمكان، والجمهور ليس شخصاً واحداً وأذواق الناس تتأثر بتأثر حواسهم السمعية والبصرية إضافة إلى التراكمات المعرفية والتي تتيح لفئة معينة من الناس الحكم والنقد بناء على معرفة سابقة؛ فلا يستطيع مثلاً من هو غير مهتم بالشعر أن يعطي نقداً بنّاء احترافياً وكذلك لا يستطيع من لا دراية له بالرواية أو قليل القراءة أن يعطي رأيه بموضوعية في مجال النقد الروائي؛ لذلك هناك حجاب يتخلل كل حكم على عمل مقدم للجمهور، والذائقة الأدبية ترتكز على المادة وتتغذى بالمعرفة لهذا يمكن القول إن الذائقة الأدبية ليست اعتباطية فهي تطورت قديماً إذ كان الشعر يتصدر الأعمال الأدبية ولكن مع تطور الحياة وسيادة ثقافة السرعة واختصاراً للوقت اتجه الناس للرواية التي أخذت في بعض أساليبها المزج بين الشعر والوصف وبين السرد والانزياح والمحسنات اللغوية حتى باتت الرواية أقرب للتداول والتفسير».

ولفت حافظ إلى دور الصورة والتي تسهل عملية نقل الفكرة والشعور إلى حاسة النظر فكل شئ يخضع للزمانية والمكانية بكل تحولاتها وانزياحاتها العامة والخاصة، وبفضل التكنولوجيا لم يقتصر العلم والمعرفة على أحد، واستطاع الإنسان البسيط الذي لم يكمل دراسته، أن يطور من علمه ويوسع مداركه، وبفعل الثورات التكنولوجية استقى الإنسان ثقافته من ثقافات متعددة وهكذا أصبحت ذائقتنا تتقبل كل جديد وبات الإنسان أكثر ليونة وسهولة، لذلك انبثقت من الذائقة العامة ذائقة انتقائية، والذائقة دائمة النمو لا تحدها وسائل اتصال أو تعليم أو آراء النقاد ومن حق أي إنسان لديه معرفة أن يوسع دائرة ثقافته في نطاق ما هو مهتم به كالشعر أو الرواية وغيرها، وأخيراً أن ازدهار فن من الفنون في حقبة لا يحدّه حدّ ولا يفصل بين القديم والحديث إلا شَعرة ويبقى للشعر مكانته وللرواية مكانتها بين الناس.

ضرورات

الدكتور الفارس علي مترجم وأكاديمي، يقول: «من المعروف أن نشأة الأجناس الأدبية وانقراضها تخضع لضرورات اجتماعية، فعملية التدافع بين الأجناس الأدبية قديمة جدًّا، منذ عهد الملاحم الشعرية التي ظلت مسيطرة على الذائقة الأدبية حقبًا مديدة من حياة الإنسانية، لكنها تراجعت، إلى أن لفظت أنفاسها تحت وطأة الحضور الطاغي للرواية، وجاءت نشأة الرواية في القرن الثامن عشر الميلادي تلبية لتطورات اجتماعية عقب انهيار البورجوازية بهمومها الاجتماعية في أعقاب الثورة الصناعية، فكانت الرواية هي الفن الأقدر على مقاربة هموم الطبقة الوسطى، ومعاناتها، وتصوير طموحاتها وأشواقها، كذلك الأمر في تاريخنا الأدبي العربي ظل الشعر هو ديوان العرب يختزن تاريخهم وهموهم وآمالهم وأفراحهم وأتراحهم ومفاخرهم وأهازيجهم ومدائحهم وأهاجيّهم، إلى أن نزل القرآن، فأفل حقبة من الزمن إبان فترة الدعوة الأولى، لكنه سرعان ما عاد بأقوى فتيًّا قويًّا، ثم ما لبثت أن ظهرت ضروب جديدة من فنون القول، كفن القص، إما على ألسنة الحيوان كما في كليلة ودمنة، وإما عبر طائفة القصاصين والوضّاعين، ثم فن المقامة كمقامات الحريري، ثم الحكاية والخرافة على نحو ما تجلت في ألف ليلة وليلة، لكن كل ذلك لم يزحزح الشعر عن عرشه قِيدَ أنملة، وظل هو فن العرب الأول، حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين اللذين شهدا بواكير روايات عربية في لبنان ومصر، وشاع منها رواية زينب، للدكتور محمد حسين هيكل تحت اسم مستعار«مصري فلاح»، في إشارة غير خافية الدلالة».

ويواصل الدكتور علي سرده بالقول: «في تلك الفترة شهدت الحركة الشعرية نشاطاً محموماً للسيطرة على الذائقة الأدبية لجمهور المتلقين، وطارت في الآفاق أعمال شعراء كبار، وازدهرت المدارس الشعرية، وتعددت، وشهدت الساحة الأدبية صراعات ساخنة بين تياري المحافظة والتجديد، في ظل ذلك بدأت تحتل الرواية على استحياء مساحات مما كانت تشغلها دواوين الشعر، وبعد قليل باتت الرواية وكأنها ديوان العرب، مع بروز أسماء روائيين عرب عظام كنجيب محفوظ ومن في طبقته، واتجهت أقلام النقاد صوب الرواية، في حين امتلأت الرفوف بعشرات الروايات الملقاة على مكاتب النقاد، وكأنها لم تكتب إلا لهم، في زمن ضاق فيه الوقت عن القراءة بشكل عام، لقد روَّجت ملخصات النقاد ومقارباتهم لهذا الفنّ، ولكن مساحة القراءة تقلصت، لمصلحة الصورة المرئية، فاكتظت شاشات الفضائيات والمنصات الإلكترونية بالمسلسلات والأفلام العربية والمدبلجة والأجنبية، التي أدمنت شريحة كبيرة على انتظارها، من هنا أرى أن الشعر ظلَّ، وسيظل، محافظاً على مكانته، على الرغم من وقوع العديد من كتابه في شراك الإبهام والتعقيد، فما زالت، وستظل طائفة من الشعراء تلبِّي الحاجات الوجدانية والنفسية لجمهور المتلقين».

رؤية

الروائي والقاص حارب الظاهري، يقول: « لا شك بأن ذائقة العصر الأدبية مملوءة بالمخاضات الفكرية المنتمية إلى شكل العصر ومضمونه الفكري، وانتقاء المجتمع المثقف لأية ذائقة لا يأتي عبثاً، بيد أن القصيدة هي الراسخة في مجتمعاتنا العربية وهي المعبرة عنا على مر العصور وهي الحاضنة لذائقتنا الأدبية، حيث لم يكن سوى الشعر يرتقي بالشاعر ويضعه بالمصاف اللائق به، ولكن في عصرنا شهدت الحياة تحولات فكرية وأدبية، وجاءت القصة والشعر الحر ومن ثم الرواية، كل هذا حضر بشكل متلاحق وبشكل واسع، فالذائقة اتسعت مما فرض واقعاً مختلفاً ورؤية فكرية مغايرة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"