الدور البولندي في الأزمة الأوكرانية

00:27 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.خلبل حسين*

ظل الوضع الجيوسياسي المميز لبولندا يتحكم في معظم الأزمات الأوروبية، وإن يكن هذا الدور لم يسعفها في الكثير من المحطات، فهي إحدى الدول التي خرجت من الجغرافيا السياسية لأوروبا ثلاث مرات، قبل إعادتها إلى الوضع الحالي، وغالباً ما كانت محط أنظار القوى المهيمنة على القرارات الدولية عامة والأوروبية بخاصة، ومؤخراً أتت الأزمة الأوكرانية لتعيد تسليط الضوء على دور بولندا المحوري من زوايا متعددة، إن لجهة الأمن الأوروبي وتحديداً ما له علاقة بحلف الناتو، مروراً بالجانب الإنساني المتصل باللاجئين، وصولاً إلى إعادة ترتيب علاقاتها بالمجموعة الأوروبية وروسيا، وبمختلف القوى المؤثرة حالياً في النزاع القائم.

 على أن هذا الدور الذي ربما لن يكون لها التأثير الفعلي فيه، بقدر ما هو دور مرسوم لها الدخول فيه، ما يرخي بتداعيات كثيرة على الواقع البولندي ذي الصلة بالتجارب السابقة، وهو في أحسن الأحوال سيكون دوراً عابراً قبل ترتيب البيت الأوروبي لاحقاً، بصرف النظر عن قدرتها في التأثير من عدمه على واقع ربما تكون مرغمة عليه، نظراً للسياسات التي انتهجتها بعد وصول اليمين المتطرف إلى الحكم مؤخراً.

 ويبدو من مجمل الوقائع الظاهرة حتى الآن أن ثمة مساراً تتجه إليه، وهو تكريس الدور الذي رسم لألمانيا إبان الحرب البارة خلال القرن الماضي، ومحاولة المضي به كلاعب محوري في الحرب الباردة التي تحولت ساخنة عبر أوكرانيا ومن ورائها الغرب وروسيا. فبولندا التي تعتبر من أوائل الدول التي جُذبت لحلف الناتو، بعدما كانت رأس حربة في الثورة على النظم الاشتراكية عبر نقابة عمال غدانسك في العام 1988 والتي اعتبرت المسمار الأول في نعش تفكك الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، تأتي اليوم لتقود تياراً يغلفه حلف الناتو بمواجهة روسيا في أوكرانيا، وهو أمر لا يمكن لموسكو هضمه أو القبول به حتى، بخاصة أن أصل المشكلة يبدو في خوف روسيا من التمدد الأطلسي إليها عبر كييف، وبخاصة أن الاستراتيجية الروسية حالياً تقوم على مبدأ محاولة هندسة الأمن الأوروبي، والعلاقة مع الناتو من البوابة الأوكرانية.

 فبولندا التي تشغل حدوداً معتبرة مع أوكرانيا تصل إلى 530 كيلومتراً، إضافة إلى عوامل كثيرة متنوعة، أفسحت المجال واسعاً لمراكمة قوتها العسكرية واللوجستية بمساعدات وازنة من الولايات المتحدة، وهي لم تألُ جهداً من الناحية العملية في الإيحاء بإمكانية استعمالها مباشرة في الحرب الدائرة حالياً، فيما تقدم كل المساعدات العسكرية واللوجستية للرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي، وصولاً إلى الإيحاء بتشكيل حكومة أوكرانية انطلاقاً من أراضيها، وهو ما يشكل استفزازاً واضحاً لموسكو لم تقبل به، والتي أوحت أيضاً إلى أنها ستوسع دائرة الحرب لتصل إلى أي مكان يقدم المساعدة لأوكرانيا، وهو ما يعتبر تهديداً واضحاً لبولندا في حال استمرارها في تلك السياسات.

 في منتصف القرن الماضي كان لتقسيم ألمانيا وظيفة استراتيجية في المواجهة بين الشرق والغرب؛ حيث تمركز الثقل العسكري والأمني للولايات المتحدة وحلف الناتو في القسم الغربي من ألمانيا، فيما ظل حلف وارسو في الحضن البولندي باسطاً سطوته على القسم الشرقي من ألمانيا، واليوم تقوم وارسو على ما يبدو بتعزيز خطواتها للعب دور ألمانيا الغربية في حقبة الحرب الباردة. فهل ستستطيع وارسو حالياً القيام بهذا الدور في ظل حقبة المواجهات الساخنة؟. 

 ثمة الكثير من المعطيات التي لا تبشر بحل سريع للأزمة الأوكرانية، ما سيتيح المزيد من الانخراط الإقليمي والدولي في هذه المواجهة، ومنها بولندا المندفعة بقوة نحو هذا الدور غير الواضحة نهاياته حتى الآن.

* رئيس قسم العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"