عادي

«اللوفر أبوظبي» يستقبل لوحة «القديس يوحنا المعمدان» لدا فينشي

20:06 مساء
الصورة

أبوظبي: «الخليج»

احتفالاً بالذكرى الخامسة لتأسيسه، استعار متحف اللوفر أبوظبي من اللوفر باريس قطعة فنية استثنائية تُعدّ من أشهر روائع عصر النهضة، وهي لوحة ليوناردو دا فينشي «القديس يوحنا المعمدان»، ومن المقرر أن تُعرض في صالات العرض الدائمة في المتحف ابتداءً من 15 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ولمدة عامَين.

يذكر أن اللوحة التي أبدعتها أنامل ليوناردو دا فينشي تجلّت فيها عبقريته، وجسدت ذروة إبداعات عصر النهضة بأكمله، حيث تعتبر واحدة من أشهر لوحات متحف اللوفر. ويعد الغموض والبهاء اللذان ينبعثان من شخصية القديس يوحنا وأسلوب الجلاء والقتمة «كياروسكورو» الذي طُبق بمهارة بالغة في رسم هذه اللوحة عناصر متميزة جعلتها موضع إعجاب لملايين الزوّار الذين يأتون إلى المتحف الأكثر زيارةً على مستوى العالم كل عام.

وظلّت لوحة القديس يوحنا المعمدان غير مكتملة بعد وفاة رسامها، حيث كانت في حيازة شخصيات بارزة للغاية مثل الملك تشارلز الأول ملك إنجلترا، وعقبه ملك فرنسا لويس الرابع عشر، وذلك قبل انضمامها إلى مجموعة مقتنيات متحف اللوفر عقب افتتاحه في عام 1793.

كما أن ليوناردو دا فينشي (1452-1519)، الذي يحظى بمكانة كواحد من أشهر فناني العالم ويرتبط اسمه بالعبقرية الفنية، لم يرسم سوى عدد قليل جداً من اللوحات، فبعد عرض اللوفر أبوظبي للوحة «لا بيل فرونيير» المُعارة من متحف اللوفر في عام 2017، يُعدّ حضور بصمة دا فينشي للمرة الثانية في اللوفر أبوظبي حدثاً بالغ الأهمية، ومن المقرر أن تُعرض هذه اللوحة الخشبية المرسومة بألوان زيتية، والتي تجسد العبقرية الرائعة التي تميّز بها فنانو عصر النهضة، في الجناح رقم 3 في اللوفر أبوظبي المخصص لأعمال العصر الحديث (من القرن الخامس عشر حتى الثامن عشر).

وشرع ليوناردو دا فينشي في رسم لوحة «يوحنا المعمدان، شفيع المدينة» في أوائل القرن السادس عشر في مدينة فلورنسا الإيطالية، إلا أننا لا نعلم ما إذا كان الفنان قد اختار موضوع هذه اللوحة بنفسه أو أنه قد كُلّف به، فعلى مدى أكثر من 10 سنوات، لم يُغفِل أبداً إتقان أدق تفاصيل لوحاته التي تميزت بعناصر رمزية وتجريبية، إضافة إلى مهارة الأسلوب؛ ما جعل من اللوحة تجربةً فنيةً غامرةً.

وظلت لوحة القديس يوحنا المعمدان في حوزة دا فينشي، حيث أحضرها معه حين سافر إلى فرنسا ليستقر فيها عام 1516 تلبيةً لدعوة الملك فرانسيس الأول (1494 - 1547)، وعندما توفي ليوناردو دا فينشي في عام 1519، كانت غير مكتملة، بما في ذلك الذراع اليمنى والفراء الذي يغطي الجسم، ثم انتقلت اللوحة التي حصل عليها الملك الفرنسي إلى مجموعة مقتنيات الملك تشارلز الأول ملك إنجلترا (1600 - 1649) عام 1630، قبل أن تنضم إلى مجموعة لويس الرابع عشر في عام 1662، ثم ظلت اللوحة بعد ذلك ضمن المجموعة الملكية الفرنسية، حتى انضمت إلى متحف اللوفر في خضمّ الثورة الفرنسية.

ورُممت اللوحة عام 2016 بإشراف قسم اللوحات في متحف اللوفر، وأسهمت هذه العملية الدقيقة في تمكين القائمين على عملية الترميم من تخفيف طبقات الورنيش السميكة المُصفرّة والمؤكسدة التي كانت قد وضعت على اللوحة بعد وفاة دا فينشي، والتي ألحقت الضرر بألوانها وأخفت ملامح القديس يوحنا، وبعد عملية الترميم، استعادت شخصية القديس يوحنا صورتها المقصودة، حيث برزت حركة جسده وتجلّت تعبيرات وجهه بصورة أكثر دقة.

وتكمن القوة الروحية لهذه اللوحة في التفاعل البارع الذي تميز به أسلوب الجلاء والقتمة «كياروسكورو» وسلاسة نموذج الشخصية، وقد تحقق ذلك من خلال إضافة طبقات لامعة رقيقة جداً مكونة من الزيت المخلوط بكمية ضئيلة للغاية من الأصباغ، ويُطلق على هذا الأسلوب، الذي برع فيه ليوناردو دا فينشي، اسم «سفوماتو»، والذي يجعل الملامح تبدو غامضة وكأنها تحرك الشكل المرسوم، لقد استخدم الفنان قدراً ضئيلاً من الألوان - درجات دافئة من اللون البني على خلفية سوداء مجردة تقريباً - كما اتبع أسلوباً مقتصداً استهدف به توضيح تعبيرات الوجه المشعّة التي تغلُب عليها ابتسامة الواعظ.

وتمثل اللوحة نموذجاً مثالياً للجمال؛ إذ تتميز بابتسامة رقيقة، كما تذكِّرنا بأعمال دا فينشي الأخرى، مثل لوحتَي «العذراء والطفل مع القديسة آن» و«الموناليزا» (المعروضتَين في متحف اللوفر)، ويَستحضِر شكلُ الجسم المنبثق من الظلام بتفاصيله ذات الانحناءات، وكأن صورته قد التُقطت في حينها، مشهدَ شعلة رقيقة تتمايل فوق شمعة في ظلمة الليل.

كان يوحنا معاصراً ليسوع الناصري؛ حيث عاش حياة متواضعة في الصحراء وأصبح الواعظ الذي بشر بقدوم المسيح، وقد مارس التعميد في مياه نهر الأردن، ليُلقب منذ ذلك الحين ب «يوحنا المعمدان»، ويُعد هذا الواعظ شخصية رئيسية في المسيحية، كما يُعتبر أحد الأنبياء في الإسلام، وبعد ذلك أصبح القديس يوحنا المعمدان القديس الراعي لمدينة فلورنسا الإيطالية موضع اهتمام، وكثيراً ما كانت تصوره أعمال فنية خلال عصر النهضة، حيث اشتهرت تلك الحقبة بإبداعاتها الفنية الرائعة.

لقد فضل ليوناردو دا فينشي تجسيد يوحنا في صورة شاب ذي شعر أجعد وغزير يرتدي حُلة بسيطة من جلد حيوان، حاملاً في يده عصاً تمثل صليباً، حيث يُطل القديس علينا من الظلام بوجه يشعّ نوراً وقد ارتسمت عليه ابتسامة لطيفة ومطمئنة وهو يشير إلى السماء بإصبعه السبابة، داعياً من يتأمل اللوحة إلى الإقبال على الله، بينما تمنح ابتسامته الواثقة تأكيداً على خلاص الروح.

وقالت لورانس دي كار، رئيسة متحف اللوفر: «يمثل متحف اللوفر أبوظبي إنجازاً مميزاً ونجاحاً هائلاً في عالم المتاحف، فقد استحوذ المتحف، الذي أتى كثمرة تعاون بين دولة الإمارات العربية المتحدة وفرنسا، على قلوب وعقول جمهوره المتنامي على مدار خمس سنوات. ويمثل الاحتفال بهذه الذكرى فرصة عظيمة لكي يؤكد اعتزازه بالتعاون جنباً إلى جنب مع شركائه، وتعزيز الدور الذي نؤديه خلال العقد المقبل، وإنه لمن دواعي سروري أن أشهد وصول لوحة «القديس يوحنا المعمدان» إلى اللوفر أبوظبي، تلك التحفة الفنية الرائعة التي أبدعها ليوناردو دا فينشي، والتي ستُبهر زوّار المتحف بقوة تفاصيلها وروعة جمالها، وما كنّا لنتصور أن نجد سفيراً يجسّد قيمنا أفضل من هذه اللوحة».

وأفاد محمد خليفة المبارك، رئيس متحف اللوفر أبوظبي بأن «وصول هذا العمل الفني الرائع من متحف اللوفر يعدّ خير مثال على مدى عُمق وتميّز تعاوننا طويل الأمد، حيث يحظى زوار اللوفر أبوظبي بفرصة لا تُفوَّت للتفاعل مع تفاصيل عمل فني متميز يجسّد لحظة استثنائية في التاريخ، ونراه الآن يشكل ملامح فصل تاريخي في قصة المتحف الكبرى، ولا يفوتنا أثناء احتفالنا الشهر المقبل بالذكرى السنوية الخامسة لتأسيس اللوفر أبوظبي أن نفكر في أفضل السبل لجعل هذا المتحف المتميز في صدارة الرؤية الخاصة بالمنطقة الثقافية في السعديات، وذلك بهدف تعزيز الروابط الدولية من خلال التحدث باللغة العالمية المشتركة التي يجسدها التاريخ والثقافة والفنون».

يذكر أن عرض لوحة القديس يوحنا المعمدان في اللوفر أبوظبي يُعدّ حلقة من سلسلة مكونة من أربع قطع فنية رئيسية سيقدمها متحف اللوفر على سبيل الإعارة، وذلك في إطار تمديد الاتفاقية الحكومية الموقعة في 3 ديسمبر/كانون الأول 2021 بين كل من وزيرة الثقافة الفرنسية آنذاك روزالين باشيلو نركين، ومحمد خليفة المبارك، رئيس متحف اللوفر أبوظبي.