عادي

الوطن.. قصة شغف

22:45 مساء
قراءة 5 دقائق
لوحة للفنان عبد القادر الريس

الشارقة: عثمان حسن

أرّخت مسيرة التشكيل الإماراتي لأسماء كثيرة استلهمت موضوع الوطن في العديد من الأعمال الفنية التي تستحق الوقوف عندها، ولعل الركيزة الأساسية في هذه الأعمال أنها انبثقت من حس وطني خالص عند هؤلاء الفنانين الذين رافقوا مسيرة التحول الإماراتي منذ بداياته، وما هو مهم في هذه التجربة أنها مزجت بين مدارس واتجاهات فنية كثيرة، بدأت بطبيعة الحال من اللوحة الكلاسيكية، أو المسندية، مروراً بالتجارب التي تأثرت بمفاهيم الحداثة والمعاصرة.

الصورة

يتحدث الفنان الدكتور محمد يوسف عن أهمية التراث في الفن التشكيلي الإماراتي بوصفه ثيمة من ثيمات الاعتزاز بالهوية الوطنية، وفي هذا الإطار ينوه د. يوسف بمشروعاته الفنية الأولى التي استلهم من خلالها مفردات التراث الإماراتي، خاصة في تجربته النحتية، حيث قدم في هذا الميدان الكثير من التجارب التي قدمت، كما وصفها الكثير من النقاد، صيغة فنية متوازنة، وهذا التوازن انطلق من المكونات البيئية والذاكرة الشعبية، وقد سبق لمحمد يوسف أن أكد في حوارات كثيرة أن فهمه للتراث ينطلق من إيمانه بأن الكائنات موجودة على نحو يكمل بعضها بعضاً، وهو يتفاعل مع مكونات الطبيعة، ويتكلم معها، ويرقص معها، ويحس بوجعها وآلامها، ومن هذه المكونات، ثمة ماء، وثمة شجر، وثمة تلقائية وبساطة، تتقاطع مع بساطته وتلقائيته، فهو يقول: «أنا لا أؤمن بالتشخيص بل أقدم منحوتات طبيعية من البيئة من شجرها وأغصانها وأوراقها»، وانطلاقاً من هذه القيم يؤكد يوسف إيمانه بفطرية الفن وتلقائيته.. وعلى صعيد تجربته الشخصية التي تفاعلت مع مفهوم الهوية والتراث، يشير إلى اهتمامه بتصميم تركيبات فنية لأشياء وعناصر الطبيعة والبيئة، على سبيل المثال لوحة «نساء يذهبن إلى العرس» وغيرها من المنحوتات التي صممها من الأشجار والأوراق والأغصان والحبال ومخلفات البيئة الإماراتية، وتعكس فهمه للتراث، حيث يحضر الوطن وتحضر الحكاية والحدوتة في وعاء فني وثقافي بسيط بعيد عن التعقيد، أو المبالغة.

ويستكمل د. محمد يوسف حديثه بالإشارة إلى مجموعة من المشاريع التي يعمل عليها في كلية الفنون الجميلة والتصميم في جامعة الشارقة، وتشرك الطلبة في استلهام التراث الإماراتي من جوانبه المختلفة، وهي مشاريع خاصة من مفردات ومكونات عدة كالنسيج والطباعة، وغيرها من ثيمات البيئة المحلية، بالتعاون مع معهد الشارقة للتراث.

مفهوم الهوية

وفي هذا الإطار تتحدث الفنانة التشكيلية هدى سيف، عن هذا الموضوع من خلال الكثير من التجارب التي اهتمت بإبراز الوطن والهوية الإماراتية، وعددت الكثير من هذه النماذج وبدأت حديثها بالقول: لك أن تتوقف مثلًا عند «فن الأرض» الذي يعد أحد اتجاهات الفن المفاهيمي، وهو يعنى بالتسجيل الفوتوغرافي، حيث لكل دولة من الدول تعاملها الخاص مع هذا الاتجاه الفني، ففي الإمارات عبّر الكثير من الفنانين التشكيليين عن مفهوم كل واحد منهم للوطن من خلال استخدامهم للخامات الموجودة في البيئة الإماراتية، كأشجار السدر والنخيل والغاف وشجرة اللوز، تقول سيف: «إن القصص والحكايات التي تسرد من خلال هذا الفن، هي قصص إماراتية محلية اشتغل عليها الفنانون الإماراتيون كل حسب أسلوبه أو اتجاهه الفني».

وتؤكد هدى سيف أن هذه الاشتغالات هي جزء لا يتجزأ من التجربة الإماراتية التي عكست مفاهيم التراث بوصفه جزءاً من الهوية الوطنية الإماراتية في أعمال كثيرة، ومن خلال إسقاط مفاهيم نفسية واجتماعية تفاعلت مع الصحراء والمدينة في الوقت نفسه.

وجدان

بدوره، يؤكد الفنان خليل عبد الواحد، أن مفهوم الوطن قد انعكس في كثير من التجارب الفنية الإماراتية من خلال مدارس واتجاهات فنية مختلفة، فهناك عدد من الفنانين الذين تناولوا مفردات البيئة الإماراتية، ببحرها وبرها، في أعمال كلاسيكية كثيرة، كعبد القادر الريس وأعماله الشهيرة التي استخدم فيها مفردة الباب والنافذة، وهناك إبراهيم العوضي وفيصل عبد القادر وغيرهما ممن يحسبون على المدرسة الكلاسيكية، وهناك من اتجه إلى الفن الحديث واستلهم بيئة ومفردات التراث الإماراتي ضمن فكرة الفن من خلال أعمال وتركيبات تنتسب للفن المفاهيمي أو المعاصر، وبالنسبة إلى تجربته الشخصية تحدث خليل عبد الواحد عن تجربة «أدوات الفنان»، وهو مشروع بدأه منذ سنوات، وبتكليف حصري من مهرجان أبوظبي 2016، وهذا المشروع –وربما لأول مرة في تاريخ الإمارات- يوثق لأدوات الفنان من الأحبار والريش والسكاكين، وهذه الأدوات بالنسبة إلى خليل عبد الواحد تمثل جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة الفنان وعمله الإبداعي.

وعن علاقة هذه الأدوات بموضوع الوطن والهوية، أكد خليل عبد الواحد أن كل أشياء الفنان هي جزء من تاريخه، وجزء من تراثه، وفي تتبعه لأدوات الكثير من الفنانين أوضح أن كثيراً من أعمالهم تحكي عن أحداث ومناسبات وقصص ملهمة في تجربة كل واحد منهم، وأنهم رغم اختلاف مشاربهم الفنية، جسدوا ثيمات مختلفة من أشكال التراث، و«أدوات الفنان» كما يصفه حليل عبد الواحد عمل يشتغل على أرشيف الفنان، حيث إن هذا الأرشيف جزء لا يتجزأ من الحالة الوجدانية والنفسية للفنان، وإذا تتبعت هذه الأدوات، قد تعثر على ملابس الفنان وأشيائه، مثل «الكندورة» أو أية أدوات تراثية أخرى، تمثل تاريخه وذاكرته ولحظة انهماكه في تجسيد أعمال تنتمي لمدارس مختلفة.. وفي هذا العمل يستطيع المشاهد أن يقرأ الكثير من الأعمال والتوجهات الفنية التي عكست الكثير من ملامح التراث الإماراتي ورموزه، بوصف العمل أو المشروع يركز على الجانب المخفي من تاريخ أو سيرة الفنان.

بدأ هذا العمل، كما يؤكد خليل عبد الواحد، في متحف الشارقة للفنون مع أدوات 17 فناناً كانوا موجودين في بيت الشامسي، قبل سنوات عدة، وكانت أدوات هؤلاء الفنانين بمثابة نافذة مهمة للمشاهد للاستدلال على أساليب وأفكار وتوجهات ورؤى الفنان الإماراتي، خاصة أن أغلبيتهم اشتغلوا على ثيمات وموضوعات تنتمي للتراث الإماراتي بطريقة وأخرى.

صيغ مبتكرة

وقالت الفنانة خلود الجابري: «لدي شغف كبير بالمباني القديمة والملابس الفولكلورية والمجوهرات القديمة وكل ما يخص التراث الشعبي، وعندما بدأت في الثمانينات، انطلقت من قناعة بأنني يجب أن أطرح موضوع التراث بصيغ مبتكرة وبروح معاصرة بعيدة عن التنميط، وبعيدة عن الصورة الواقعية أو الفوتوغرافية».

وتتابع: «لقد اتجهت إلى الرسم السيريالي في تعاملي مع الرموز التراثية، وقدمت رؤية مختلفة عن السائد في تناولها لموضوع التراث، وكانت مشاركاتي في دول مجلس التعاون قد طرحت ثيمات التراث والهوية بأسلوب مبتكر وكنت دائماً أفوز بالمرتبة الأولى أو الثانية على مدى ثلاث سنوات متتالية».

وتتحدث الجابري عن أعمالها اللاحقة فتقول: «بعد ذلك قمت بتوظيف التراث خاصة الأزياء الإماراتية باستخدام الكولاج، وقد اختارتني «فيلا 88» لتقديم أعمال تتماشى مع التكنولوجيا الحديثة، ولكي يتم عرضها على مستوى عالمي، وبالفعل أبرزت تراث المرأة الإماراتية بصيغ حديثة ورؤية مختلفة تتماشى مع المعاصرة».

وتضرب الجابري مثالاً بإحدى لوحاتها التي رسمتها بمناسبة تأسيس «أصدقاء الفن» في المجمع الثقافي بأبوظبي، والتي كان موضوعها السجاد الإماراتي، فقامت برسم لوحة استخدمت فيها «المرش» الذي يعطي رائحة جميلة ووظفته بشكل معاصر ليوحي بفكرة أن العادات والتقاليد هي بالتأكيد تحمي المرأة، ولا تشكل عائقاً يقيد حريتها أو انطلاقها.
حضور

في كل المراحل كان الوطن حاضراً لدى الفنان بما يحمله من ملمح تراثي وجد ضالته في مكونات البيئة، وما تشتمل عليه من بحر وبر، فصار المشاهد أو المتلقي، الإماراتي والعربي، على تماس مع تجربة فنية كبيرة في ما تطرحه من أفكار ورؤى، وبما استطاعت أن تعكسه من تحولات في مستوى الصنعة الفنية.

الصورة
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/b99wtxnk

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"