حان وقت الرحيل

01:04 صباحا
قراءة دقيقتين
افتتاحية الخليج

يقول الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو مؤلف كتاب «روح القوانين»: «إذا أردت أن تعرف أخلاق رجل فضع السلطة في يده، ثم أنظر كيف يتصرف».
قلة نادرة ممن تولوا السلطة تخلوا عنها بإرادتهم، وقدموا نموذجاً في الإيثار من منطلق إيمانهم بأن السلطة هي وظيفة للخدمة للعامة وليست للاستئثار والتسلط؛ إذ «لا يوجد من يمسك بالسلطة وفي نيته التخلي عنها طواعية» حسب الكاتب جورج أورويل.
فالسلطة لا تغير الأشخاص، هي فقط تكشفهم على حقيقتهم. فالزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا الذي قضى 27 عاماً في السجن في إطار معركته الضارية ضد العنصرية، تبوأ سدة الرئاسة من عام 1994 حتى عام 1999، ثم قرر التخلي عن منصبه بعدما حرر بلاده من العنصرية ووضعها على طريق الحرية والنهضة الشاملة؛ حيث رفض تجديد ولايته، كي يسلم مقاليد السلطة إلى سواه، ويلهم الآخرين معنى أن تكون في السطة لخدمة وطنك، أو أن تكون عبداً لها.
رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة جاسيندا أرديرن، قدمت هي الأخرى نموذجاً فريداً في أن تكون السلطة وسيلة وليست غاية بحد ذاتها، عندما قدمت استقالتها من منصبها الأسبوع الماضي، ليس لأنها فشلت في مهمتها؛ بل لأنها شعرت بأنها لا تستطيع مواصلة القيام بدورها كما يجب.
هي ما زالت في عنفوان شبابها (42 عاماً)، ونجحت خلال الأعوام الستة التي قضتها في السلطة في حملة حقوق المرأة ووضع حد لفقر الأطفال، وعدم المساواة الاقتصادية، ومواجهة وباء «كورونا»؛ إذ حدّت من آثاره من خلال الإجراءات الصارمة التي اتخذتها وأسفرت عن أن تكون بلادها واحدة من أقل معدلات الوفيات في العالم، إضافة إلى أنها رسّخت أسلوبها القيادي في مواجهة حادث إطلاق النار في مسجدين في مدينة كرايستشيرش عام 2019 والذي أسفر عن 51 ضحية وجرح 40، من خلال تعاطفها مع الضحايا، ورفضها منطق الكراهية والتطرف والعنف والإرهاب.
إذا كان البعض أرجع الاستقالة إلى ما تعرضت له خلال الفترة الماضية من «انتقادات وتشهير وسوء معاملة» من جانب اليمين النيوزيلندي، بصفتها تنتمي إلى حزب العمال اليساري، وإذ كان ذلك هو جزء من الحقيقة، إلا الجزء الأكبر من الحقيقة، أنها كانت واضحة وصريحة في موقفها من خلال تأكيدها أنها كانت تأمل في إيجاد طريقة للاستعداد لولاية أخرى: «لكنني لم أتمكن من ذلك..لا أملك ما يكفي من الطاقة لأربع سنوات أخرى»، وأضافت: «الساسة بشر، إننا نقدم كل ما في وسعنا لأطول فترة ممكنة، ثم يحين الوقت.. بالنسبة لي لقد حان الوقت».
هي واحدة من أبناء جيلها التي قدمت نموذجاً ملهماً للنساء بصفة خاصة في قدرة المرأة على تولي القيادة والنجاح، وأن تتحول إلى أيقونة في السياسة والتفاني في الخدمة من دون أن تتحول السلطة لديها إلى هدف بحد ذاته، كما أنها نموذج لكل الساسة فيما تعنيه السلطة من أخلاق وتضحية، والتخلي عنها في لحظة عدم القدرة على العطاء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y3m33cau

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"