العودة للتصنيع في أمريكا

22:04 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد*

تنبهت، متأخرة، مفوضية الاتحاد الأوروبي لخطورة قانون خفض التضخم «Inflation Reduction Act» (الذي قلنا سابقاً إن ما يربطه بالتضخم هو مسمّاه فقط)، والذي مرره الكونغرس وصادق عليه الرئيس الأمريكي جو بايدن، الثلاثاء 16 آب/أغسطس 2022، على تنافسية السلع والخدمات الأوروبية في الأسواق العالمية.

كما لو أن قادة الاتحاد الأوروبي، فوجئوا على حين غِرّة، وصُدِموا بهذا القانون المتمثل في خطة استثمارية بميزانية تبلغ 369 مليار دولار، تتضمن منح معاملة تفضيلية للشركات الأمريكية العاملة في مجال إنتاج تكنولوجيات الطاقة «النظيفة» عبر الإعانات والإعفاءات الضريبية الحكومية. على الرغم من أن القانون مأخوذ في الواقع من «قانون أو أجندة إعادة البناء بشكل أفضل» «Build Back better Plan or Build Back better Agenda»، وإن عُدّ تراجعاً كبيراً عن مشروع القانون الأصلي، الذي كان اقترحه الديمقراطيون ورفضه الجمهوريون، والذي اشتمل على خطة الوظائف الأمريكية «American Jobs Plan»، وخطة العائلات الأمريكية «American Families Plan»، وخطة معالجة مشكلة تغير المناخ، وخطة إصلاح الرعاية الصحية المنزلية، والذي بلغت الموازنة التي كانت مرصودة له 3.5 تريليون دولار، قبل أن تتقلص بعد نقاشات امتدت لحوالي سنة، إلى 12.3% من موازنة القانون الأصلي. أي أن القادة الأوروبيين، كانوا على علم مسبق بالمسار الذي اتخذته عملية إقرار القانون الجديد. وكان يتعين على بيروقراطية بروكسل أن تنبه أعضاءها إلى ما يعنيه إقرار القانون بالنسبة لحرية التجارة العالمية وللتنافسية العالمية المتوازنة.

فجأة بدأ الرئيس الفرنسي، وكأنه أدرك متأخراً، يطلق تصريحات ناقدة ويائسة من طريقة تعامل واشنطن مع أقرب حلفائها، على حد قول القادة الأوروبيين، الذين قلّدوه في التعبير عن هذا الامتعاض، مما أسموه تمييزاً غير عادل ضد أفضل حليف عالمي لواشنطن، حين كان ينبغي أن يقف كلاهما جنباً إلى جنب في تنافسهما مع روسيا والصين. فطفقوا يعربون عن خشيتهم من هذا التمييز ضد الشركات الأوروبية. فمع منح الشركات الأمريكية المنافِسة إعانات مالية سخية، وأولوية الحصول على التعاقدات، بدأ القادة الأوروبيون التفكير في برنامج دعم خاص بهم، حيث سعوا يوم الخميس 15 كانون الأول/ديسمبر 2022 للاتفاق على موقف موحد للوقوف في وجه خطة «التثوير» الاقتصادي الأمريكية الجديدة، التي يقولون إنها ستحرم بلدانهم بشكل غير عادل من السوق الأمريكية، وذلك من خلال تخصيص مفوضيتهم في بروكسل لحزم إعانات «Subsidies» ضخمة للشركات الأوروبية، ومنها المشتغلة في قطاع الطاقة المتجددة، بغية الحيلولة دون الوقوع فيما أسماه رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو: «النقطة التي تجازف فيها أوروبا بالتوقف عن التصنيع».

والحال، أن الموضوع أكبر من مجرد إصدار قانون لمكافحة التضخم، الذي وصل إلى 9.1% في حزيران/يونيو 2022، قبل أن ينخفض بفعل تصعيد سعر الفائدة إلى 6.5% نهاية ديسمبر/كانون الأول 2022؛ وإنما يندرج ضمن سياسة اقتصادية كلية تهدف لإعادة الاعتبار لقطاع الصناعة الأمريكي، الذي أخلت السياسات السابقة مكانه لصالح قطاعات المال والمصارف والخدمات. بما يشمل ذلك تشريع قانون أشباه الموصلات والعلوم لعام 2022 «HIPS and Science Act of 2022» (لتقليل الاعتماد على الخارج في تأمين احتياجات البلاد من أشباه الموصلات، التي لا تنتج منها السوق الأمريكية سوى 10%، وهي غير متطورة)، وقانون خفض التضخم (IRA)، وقانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف «Infrastructure Investment and Jobs Act»، التي تم إقرارها جميعاً العام الماضي.

تتحسب أمريكا لحدوث انقطاع في الإمدادات، سواء إمدادات الطاقة والمدخلات الصناعية الأخرى من كندا وأوروبا الغربية، أو إمدادات أشباه الموصلات من تايوان، بسبب خطورة انفلات تصاعد المجابهة بينها وبين كلٍّ من روسيا والصين. لذلك، ارتدت إلى الحمائية على حساب حرية التجارة. الأوروبيون يعترضون على الإعفاءات الضريبية وإعانات إنتاج الشركات، وعلى شعار استراتيجية «اشتر المنتجات الأمريكية» (Buy American). لكن هذه إجراءات محض داخلية سيادية، لا صلة لها مباشِرة بدعم الصادرات الأمريكية ومناهضة الواردات إلى السوق الأمريكية. فهي لا تخرق، بهذا المعنى، قواعد منظمة التجارة العالمية. إنما خشية الأوروبيين من أن تؤدي هذه المحفزات التصنيعية إلى حرب تجارية بين الحلفاء، لها ما يبررها. لكنهم إذا اكتفوا بجدلهم البيزنطي حول وضع خطة استثمارية طموحة مقابلة، فسيحققون بأيديهم مخاوف رئيس الوزراء البلجيكي بشأن مخاطر «توقف أوروبا عن التصنيع».

* خبير اقتصادي بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4y9kw6fm

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"