لقد استهل هذا العام رحلته بمفهوم تقني جديد يبدو أنه سرعان ما سيصبح أمراً محتوماً في واقعنا. كثيراً ما كنا نعاين فكرة الذكاء الاصطناعي والشكل الذي يمكن أن يصبح عليه، وتوقفنا كثيراً عند الأسباب النظرية وراء هذا الابتكار والتحولات التي ستطرأ عليه عند الاندماج في نواحٍ مختلفة من الحياة البشرية. ولا يزال ثمة الكثير من النقاشات والحوارات على هامش المؤتمرات بغية إلقاء الضوء على الاصطلاحات التقنية والاستخدامات العملية للذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من أن المناقشات لا تزال جارية على قدم وساق، إلا أن المعنيين بمخرجات الذكاء الاصطناعي ظنوا أن لديهم ما يكفي من الوقت للتمكن منها قبل مواجهة قوتها الهائلة. ولكن شعر العالم بالصدمة من جراء سرعة ظهور برامج مثل «تشات جي بي تي» التي تسللت إلى حياتنا وصارت مفروضة علينا بسبب التفوق المطلق لما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي.
يصف «تشات جي بي تي»، وهو اختصار لكلمات إنجليزية تعني «محولات الدردشة التوليدية المدربة مسبقاً»، وظيفته على أنه أداة تحسّن الأنماط الحوارية اللغوية. ببساطة، هو روبوت دردشة يشبه المتحدث البشري، وتتطور براعته اللغوية عن طريق نقل تعلمه من خلال الحوارات المستمرة التي يجريها مع مستخدميه. بإمكان هذا البرنامج المتاح مجاناً للاستخدام الكتابة عن أي موضوع تطلبه منه، وله القدرة على تجسيد أية صورة تتخيلها، ويمكنه تشفير أي برنامج ترغب فيه. يعتمد البرنامج على قاعدة بياناته الهائلة من المعلومات التي يطورها ويحدثها بناء على التجارب والأخطاء خلال تفاعله مع الذين هم أسياده، في الوقت الراهن، البشر. من النادر أن تشهد البشرية اختراعاً يمتلك القدرة على تغيير القواعد المعروفة والتسبب في هزات من شأنها تغيير العالم بالشكل الذي نعرفه، ولا شك أن التعرف للمرة الأولى على «تشات جي بي تي» والدخول في محادثة معه يعدّ من تلك اللحظات التاريخية التي تشعر فيها أنك ترى العالم الذي تعيش فيه الآن وقد انطلق في رحلته نحو النهاية.
عادة ما نستطيع دراسة تطور الاختراعات والاستجابة البشرية لها في صفحات التاريخ، لكن بالنسبة للذكاء الاصطناعي لا نملك سابقة تاريخية مشابهة لتصوّر كيف سيصبح شكله مستقبلاً. يمكننا أن نتخيل أن تأثيره لن يقل قوة عما فعلته الثورة الصناعية بديناميكية العالم، فإذا عدنا إلى الوراء ونظرنا إلى تأثير الثورة الصناعية وكيف استطاعت أن تغير وجه الحياة، فسندرك أن الاختراعات الضخمة التي استطاعت جعل الإنتاج آلياً ومضبوطاً وفق وتيرة سريعة الإنتاج دفعت بعقارب ساعات الحياة إلى الأمام وأدت إلى شراهة الاستهلاك وخلّفت تأثيراً كبيراً على كافة مناحي الحياة البشرية ابتداءً من الاقتصاد العالمي إلى المفاهيم الأساسية للحياة اليومية، ولم يعد العالم كما كان عليه مرة أخرى. لعبت الثورة الصناعية دوراً في توزيع الثروة، ما دفع إلى تنامي الطبقة الوسطى، وأضاف للقوى العاملة تلك الساعات الطويلة من العمل الممل المتكرر والمنهك.
مهدت الثورة الصناعية أيضاً الطريق أمام حدوث عملية التمدين جراء هجرة العديد من المزارعين إلى المدن وتخليهم عن الأعمال الحرفية والزراعية، وهذا التحول بحد ذاته ساهم سريعاً في تحويل القرى إلى مدن صاخبة. كما نشأ مفهوم أخلاقيات العمل المرتبطة بالصناعة وتلخصت في عبارات على غرار.. العمل خير أساسي للإنسان والشخص الذي لا يعمل يعاني، وأصبح الكسل وأوقات الفراغ من الأمور التي تثير الاستياء إلى درجة ترك هذا الأمر تأثيراً على الحياة الأسرية. كما ظهرت أيضاً انقسامات طبقية عن طريق فصل المجتمعات عن بعضها على أساس الدخل. هنا ألقي الضوء على الأثر السلبي للثورة الصناعية من منطلق أن تأثيرها الإيجابي واضح للعيان، وساعدت الاختراعات حينذاك في تطوير العالم، وإحداث راحة كبيرة بشكل لا يمكن إنكاره. لكن مع أي ابتكار مستقبلي جديد علينا أن نضع السلبية الناتجة عنه نصب أعيننا.
في مقابلة حديثة أجريت مع سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة أوبن أيه آ، التي تقف وراء تطوير «تشات جي بي بي»، قال إن أفضل سيناريو ل«تشات جي بي تي» مذهل بشكل لا يمكن تصديقه، إلا أن أسوأ أمر قاله هو ستكون «إطفاء الأنوار لنا جميعاً»، وهو اعتراف قاتم وكئيب كان من الممكن اقتباسه مباشرة من رواية فرانكشتاين لماري شيلي. لا بدّ من النظر في التداعيات الناشئة عن مثل هذا البرنامج على جميع مستويات الحياة البشرية، لأنه سيترك تأثيراً كبيراً على الاقتصاد وسيلقي بعواقبه الوخيمة على مشهد التوظيف بالنسبة لعدد كبير من السكان في العالم، فلا شك أن هذا البرنامج الذي يمكنه محاكاة الحوار البشري سيلغي معظم الوظائف التي تتطلب تفاعلاً بشرياً.
سيترك «تشات جي بي تي» تأثيراته على الجهود الإبداعية، إذ يمكنه تأليف أي شيء من نصوص الأفلام إلى الأشعار، وتجسيد أي فكرة بالرسم. فكلما زاد تطور هذا البرنامج، أصبح من الصعب التمييز بين عمل يقوم به إنسان وعمل آخر آلي مشابه، ما يضعنا أمام مأزق يتعلق بالأصالة وحقوق الملكية الفكرية. لقد استطاعت البشرية خلال رحلة تقدمها أن تصمم وتبتكر آلات تساعدها على التخلص من استخدام اليدين في العمل، إلا أنها الآن نجدها تخرج ببرامج تهدف إلى التخلص من استخدام العقل، ذلك الشيء الوحيد الذي ميز الله به البشر والذي لا يمكن لأي مخلوق آخر على هذا الكوكب أن يضاهيه. لقد بنينا الآلات ونقوم الآن بتدريبها على كيفية إنهائنا، إذ نلقنها عبر الذكاء الاصطناعي لتجريدنا من وظائفنا، والانغماس في الطريقة التي نعلم بها أجيالنا المستقبلية، وفي النهاية.. من يدري ماذا تحمل لنا النهايات؟ لكن ما تعلمناه من التطورات هو أن البقاء للأنسب والأصلح دائماً.
يتحرك عالمنا اليوم بشكل أكبر على المحتوى الذي يفوق بتأثيره أكبر مصادر الطاقة، وعندما يحدث إنتاج هذا المحتوى بأياد غير بشرية لا نتحكم فيها، يظل السؤال الأخلاقي مطروحاً، إذ إن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تحصل على المعلومات عبر تغذيتها بأيادٍ بشرية، ولا شك أن تلك المعلومات تخضع لبعض التحيزات، بالتالي: هل سيكون ذلك صحيحاً من الناحية السياسية؟ هل يأخذ في الاعتبار جميع المخاوف المتعلقة بثقافة اليقظة اليوم؟ ما هو الجانب السياسي والاجتماعي الذي قد يميل نحوه ولماذا؟
انتاب هذه الكاتبة فضول بما قد يقوله الذكاء الاصطناعي فأجريت مقابلة مع روبوت تشات جي بي بي وطرحت عليه أسئلة تدور حول موضوع هذه المقالة بشكل أساسي. سألت طفل الذكاء الاصطناعي إذا كان بإمكانه التصرف بشكل أخلاقي. كانت إجابته: أنظمة الذكاء الاصطناعي ليست قادرة على التصرف بطريقة أخلاقية أو غير أخلاقية من تلقاء نفسها، لأنها لا تملك القدرة على إصدار أحكام أخلاقية.
دماغ بلا قلب ولا روح يتحدّث ونتحدّث معه.. هل يمكن أن يصبح هذا المقياس الذي يوجّه مستقبلنا؟ هل سيكون هذا أسوأ سيناريو لألتمان؟
كان سؤالي الأخير: هل خدعت إنساناً من قبل؟ «ظهرت إشارة سريعة تقول: حدث خطأ. إذا استمرت هذه المشكلة، فيرجى الاتصال بنا من خلال مركز المساعدة الخاص بنا على (help.openai.com)»
حسناً إذاً.. إليكم النظام العالمي الجديد، ها نحن نأمل بأن نرى جانبه الأفضل فقط.