عادي
قرأت لك

عبدالعزيز جاسم.. يصنع مسطرة من النجوم

14:33 مساء
قراءة 4 دقائق

الشارقة: يوسف أبولوز

عبدالعزيز جاسم منطقة شعرية بمفرده، بل، هو مناطق شعرية كل منطقة يُمثّلها كتاب شعري، وفي كتابه «آلام طويلة كظلال القطارات» أحاول تقديم وصف شعري مكثف لهذه المنطقة من الشعر السردي الملحمي الذي جاء في خمس قصائد كل قصيدة تتشعّب إلى عناوين أخرى تشكّل معاً هوية العنوان الرئيسي للقصيدة الأصل، هذا من حيث الشكل الأولي المباشر للقصيدة، أما من حيث السرد الشعري، فكل قصيدة هي نصّ مكتمل، ولكنه ليس مغلقاً.

يخيّل إليّ أو أنني أستطيع القول إن قصائد هذا الكتاب لعبد العزيز جاسم تشبه بيتاً كبيراً بغرف عديدة ليست متشابهة، ولكن كل غرفة تفضي إلى أخرى من خلال ممر صغير سرّي له مفتاح صغير أيضاً، وهذا المفتاح دائماً بيد عبدالعزيز جاسم ذاته الذي يحاول أن يقبض على هذه الآلام الطويلة التي يفصح عنها العنوان، وقبل محاولة قراءة هذه النصوص التي تفضي إلى بعضها بعضاً أتوقف قليلاً عند العنوان نفسه، وكثيراً ما يقول النقّاد إن العنوان هو «عتبة النصّ» بمعنى العامل المساعد للدخول إلى النصّ، وهو توصيف صحيح، ولكن ليس كل عنوان هو عتبة، وليست كل عتبة تصلح للدخول، بل، هناك عتبات تؤدي للخروج، أي على العكس تماماً من الدخول إلى رحابات وممالك النصّ الشعري الذي يشكّل أحياناً شكلاً من أشكال القلعة، غامضة، نائية، مغلقة.

1
عبد العزيز جاسم

**عتبات

عبدالعزيز جاسم شاعر عناوين أو شاعر عتبات احترافية إن جازت العبارة.. انظر إلى عناوينه منذ مجموعته الأولى «لا لزوم لي» الصادرة في بيروت في عام 1995، وله عنوان لافت آخر هو «افتح تابوتك وطرْ»، فإذا تأملت قليلاً في هذه العناوين تجد شاعراً لا يقيم في الطمأنينة أبداً، ولا يُقارب كل ما هو عادي، وُمُسْتهلك، ومعاد أو مكرر أو معقول.

عبدالعزيز جاسم ليس شاعر بدهيات ولا هو شاعر أفكار ناجزة جاهزة «مستعملة»، ولا هو شاعر المنطقيات والنتائج والخلاصات التي تخضع دائماً للتجربة والتعيين «المختبري» فيصبح مفروغاً منها لمجرّد أن تأخذ شرعيتها العلمية والاختبارية من المختبر أو الورشة أو الوظيفة. لا، عبدالعزيز جاسم ضد المختبر، وضد التعيينات العلمية المباشرة. إنه شاعر وإذا اقتضى الأمر يقول لك وهو يبتسم «لا لزوم لي»، ويقول لك أيضاً، وبكل بساطة، «افتح تابوتك.. وطِرْ..» لا تبق هكذا جثة ممدّدة محنّطة جامدة. قم وطرْ. لا تركض فقط، بل.. طِرْ.. طرْ كالنسر الذي يحبه عبدالعزيز جاسم. كائناً غريباً، ووحيداً.

أما «آلام طويلة كظلال القطارات»، فهي أيضاً الآلام «الطائرة» إن جازت العبارة. إن هذه الآلام ليست ثابتة، حجرية، سيزيفية مثل صخرة سيزيف، بل هي آلام مثل القطارات وما أسرع القطارات، وما أسرع ظلالها إذا كانت هذه القطارات في سرعتها القصوى وهو تشق الرياح والمسافات إلى البعيد، والغامض، والنائي في ذاته، مثل حجر ملموم. أو كتلة نحتية مغلقة.

«العنوان».. لعبة عبدالعزيز جاسم ومتعته في الوقت نفسه. إنه - عنوان - المفاجئ دائماً. ليس المفاجئ له، بل هو العنوان المفاجئ لكل من يقيم في العادي، الاستهلاكي، ولعلّ من نصوصه الصادمة أو الفاتحة على شهية الكتابة والتأويل قصيدته «ديك العدم»، ونحن نعلم أن مفردة «العدم» محمّلة بالكامل بإشارات وإيحاءات ودلالات فلسفية وجودية بشكل خاص، ثم إن كلمة «ديك» مفرّغة تماماً من أي إشارة فلسفية، إنها كلمة عادية تماماً، وتكاد تكون مهملة، ولكن الطاقة الشعرية القوية الكامنة في «العدم» أوجدت ما يشبه المعادل الفكري أو الشعري أو الجمالي بين المفردتين.

تبدأ قصيدة «ديك العدم» صفحة 165 في كتاب «آلام طويلة كظلال القطارات» بلغة قاسية، حادّة، شأنها شأن لغة عبدالعزيز جاسم، فهو كما لو يشتق شعره من النحاس والملح والشوك لا من الزهر والماء والغيم. يقول بحدّية تصل حدّ «العنف»: «أيتها الخطوة الأخيرة/نحو الزوال

يا شوكتي/ يا صخرتي/ يا قوت الذئاب/ ويا سوسنة من الملح/ نَمَتْ بطيئاً/ فوق مناحر الحب..».

هذه هي بداية «ديك العدم»، لغة ليست مهادنة على الإطلاق. إنها لغة الوقت الذي ضاع، كما يقول، في زحمة الحنين «.. وفرّقنا لحمه على الجيوش»، وهي بامتياز، أي لغة عبدالعزيز جاسم في هذا الكتاب، لغة سردية بالكامل، ولعلّ، اختياري لقصيدة «ديك العدم» والإشارة إلى المفارقة الفلسفية فيه يبرر دخولي إلى أفق السردية الشعرية عند عبدالعزيز، وأشير أيضاً إلى أن ما قصدته ب «الغرف» التي يفضي بعضها إلى الآخر في إطار نصّ واحد هو أيضاً أفق آخر للسردية الشعرية عند هذا الشاعر المثقف، وخاصة ثقافة فلسفية تجعل من سرديته الشعرية حقلاً واسعاً لملاحظة الإشارة الفلسفية العديدة في نصّ لا يُهادن ولا ينهض على لغة ضعيفة، كأن الشعر هو بالفعل الرديف المنطقي الآخر لفكرة القوّة ومفهومها الفكري والفلسفي.

يسرد عبدالعزيز بضمير المتكلم «أناه» هو في مشهد درامي ملحمي، ولا أقول أنه مشهد سوريالي، كما يحلو للبعض وصف بعض شعر عبدالعزيز، فهو أبعد ما يكون عن السوريالية، وأبعد ما يكون عن الفوضى والتيه والغيبوبة. شاعر مُنّظم تماماً. يعرف ماذا يقول ويعرف ما يريده من قوله. «.. أنا سيد من رأى. ولقد صنعتُ مسطرةً من النجوم، وقستُ بها أعماقي، وذات عام، حين وطئت البحر، أهداني قُبَّرةً وقال لي، أنا الملفوف بقماطي: .. اهبط إلى قاعي... فهبطت مع قبرتي، وأنا بين بحر وسماء.. صامتاً، مفتوح العينين، لا أدرك شيئاً بينما قلوب العائلة كانت تطفو بين قطع أخشاب، وصدى استغاثات لا تصل».

**سياقات سردية

«.. آلام طويلة كظلال القطارات» كتاب سردي، حكائي أحياناً، محمّل بما هو لاذع وحارّ وَحَرّاق. وهو كتاب شعر، وليس مجموعة شعرية، لأنه يقوم على سياقات سردية، تشكيلية، كل سياق يفضي إلى الآخر بهذه الشعرية المتوالية «متواليات شعرية» موزونة أو مضبوطة على قصيدة - النثر التي يتحرر منها عبدالعزيز أحياناً، فليقي بنفسه في السرد.. حنينه الأول قبل أن يكتب الشعر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p99tnzn

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"