استعادت العلاقات الأمريكية الصينية أجواء التوتر الساخنة في ظل تصاعد السجال حول منشأ فيروس «كورونا» والملاحقة الغربية لتطبيق «تيك توك» وحظره على هواتف الموظفين الرسميين. ولا يخفى أن هذا الجدل المثار حول القضيتين ليس جوهر الخلاف بين البلدين، لكنه الأكمة التي تخفي وراءها خلافات عميقة حول الأوضاع في أوكرانيا وتايوان وأمن المحيطين الهندي والهادي، والحروب التجارية العنيفة.
قبل ثلاثة أعوام شنت الولايات المتحدة بقيادة الرئيس السابق دونالد ترامب حملة كبرى على الصين تم خلالها تحميل بكين المسؤولية عن انتشار فيروس «كورونا» في العالم، وسبقت ذلك ملاحقة شركة هواوي العملاقة بتهمة ضلوعها في التجسس. وبعد فوز الديمقراطيين هدأت العواصف نسبياً، وكان مؤكداً أنها ستتجدد عندما تختنق قنوات التواصل بين البلدين، وهو ما يحدث الآن بعد أن عرضت بكين مبادرة سلام بشأن أوكرانيا، سرعان ما قابلتها القوى الغربية بالتشكيك والسخرية واعتبرتها منحازة إلى موسكو، رغم أن كييف، صاحبة الشأن، قررت دراستها والتواصل مع بكين لبحث تفاصيلها وأبعادها. وما يمكن استنتاجه أن القوى الغربية تشعر بحساسية بالغة تجاه أي تحرك صيني على الساحة الدولية. وبمنطق الصراع القائم، لن تسمح الولايات المتحدة لبكين بأن تحقق نجاحات دبلوماسية، في أي قضية من القضايا، قد تسحب الأضواء من واشنطن ودورها في النظام الدولي. وضمن هذا السياق، سارعت بإطلاق تصريحات عن اعتزام الصين إمداد روسيا بأسلحة فتاكة، ترافقت مع تهديدات وتحذيرات من عقوبات، في خطوة تسعى إلى ترسيخ صورة الوسيط غير المحايد في الحرب الأوكرانية.
أغلب الظن أن الخلاف الصيني الغربي استعاد زخمه الذي عرفه قبل أربع سنوات، وسيتنامى بناء على التطورات المتصاعدة في مناطق التوتر. وسواء تم الاعتراف أم لا، فإن واقع الحال يشير إلى اندلاع حرب باردة جديدة تنخرط فيها الولايات المتحدة ومعسكرها الغربي مقابل الصين وروسيا. فكل ما يأتي يؤكد هذه الحقيقة وإن تم نفيها أو التهوين منها. فالغرب السياسي، الذي هيمن على العالم لنحو أربعة قرون، يدرك أن التغيرات باتت «أسرع من الصوت»، وأنه لا مفر من الصراع مع الأقطاب المضادة له. ومثلما تبيّن مجريات الحرب الأوكرانية والتجاذبات حول تايوان، فإن الغرب يدافع عن مكانته وثقافته وطموحاته، وبدأ مقاومة طويلة الأمد، مستعد خلالها لدفع أثمان باهظة، دون الانجرار إلى صراع حربي كبير، حتى يحد من تمرد بكين وموسكو على هيمنته وقواعد النظام الدولي الموروث منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
الأشهر والسنوات المقبلة ستشهد مزيداً من الاستفزازات بين الطرفين اللذين لن يعدما وسائل الاصطراع. وسيستمر هذا المنحى التصاعدي حتى تسود القناعة بضرورة التواصل والتفاوض. فالغرب لن يسلّم بسهولة، وروسيا والصين لن تقبلا بالتراجع عن طموحاتهما في أن تكونا منفردتين أو معاً، قطباً أصيلاً في النظام العالمي الجديد الذي بدأت بوادره تلوح في أكثر من مجال وميدان. والقضايا الخلافية المثارة الآن ما هي إلا أدوات وأسلحة في هذه الحرب الباردة الثانية، وهي حرب لن تكون كالأولى، ونتائجها ربما تحمل فوائد أكبر لاستقرار العالم لأمد غير معلوم.