تحدي «الأرثوذكسيين» المناخيين للمسار التفاوضي

21:42 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *

بات «الأرثوذكسيون» المناخيون يسببون صداعاً دائماً لأطراف التفاوض في كل مراحل وملتقيات المفاوضات الجارية في إطار تطبيق اتفاق باريس لتغيّر المناخ، لاسيما لأكبر مجموعة تفاوضية في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ «UNFCCC»، واتفاق باريس للمناخ، وهي مجموعة ال77+الصين.

أما مصدر هذا الإزعاج فتمثله مغالاة ومزايدات هذا الجناح المسيّس الذي اخترق صفوف المنظمات غير الحكومية وصار هو الناطق بلسان حالها، فنجح في حرفها، عن مسارها وأهدافها الأصلية المتمثلة في البحث عن – ووضع - حلول واقعية لترشيد الاقتصاد السلوكي للبشر «Behavioral economics» (يدرس الاقتصاد السلوكي آثار العوامل النفسية والمعرفية والعاطفية والثقافية والاجتماعية على قرارات الأفراد أو المؤسسات) أينما كانوا، بما في ذلك وضع حد للهدر المفرط للموارد المادية، المسؤول عن التدمير الذي لحق بالبيئة والمناخ العالميين، وتقريب المجتمعات البشرية من أهداف الاستدامة السبعة عشر للأمم المتحدة. حتى صار البعض ينعت «صناعة الNGOs» الغربية، بالمريضة التي تعتاش وتزدهر عبر الاستثمار في الكوارث الإنسانية التي تتحمل حكومات بلدانها مسؤولية حدوثها؛ فضلاً عن الاستثمار في «المساعدات الإنسانية» لجني الأرباح وتسويق وترويج «نواياها الحسنة».

تساؤلات كثيرة تطرحها الاختراقات التي تعرضت لها المنظمات الغربية غير الحكومية، وبضمنها المتخصصة في قضايا التغير المناخي. من ذلك على سبيل المثال، كيف نجحت هذه القوى، ومعظمها محسوب على الاتحاد الأوروبي، في تحييد نشاط هذه المنظمات بعيداً عن القضايا الكلية الجوهرية الحساسة التي تشكل - بلغة القضاء المستعجِل - قضايا ملحّة لا تحتمل انتظار البت فيها أولاً في محكمة الموضوع قبل تحويلها إلى المحكمة المستعجلة بعد التأكد من الحاحيّتها. ونخص منها بالذكر، قضايا الفقر والمجاعات في الدول النامية الفقيرة، وقضايا سباق التسلح والموازنات العسكرية الفلكية المخصصة له، والذي وضع العالم لأول مرة، اعتباراً من يوم الثلاثاء 23 يناير/ كانون الثاني 2023، على بعد 90 ثانية من «يوم القيامة»؛ وأزمة المديونية التي تكبل معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي للدول النامية. فحماس هذه المنظمات لقضية المناخ يقابله صمت وفرجة على الحروب وعسكرة العلاقات الدولية. بل إن الاتحاد الأوروبي وفر في عام 2006 لهذه المنظمات وللعاملين فيها والمتعاونين معها، مظلة حماية أمنية أعدتها الإدارة العامة لدائرة المساعدات الإنسانية التابعة للمفوضية الأوروبية، تحت مسمى «دليل التعاون الأمني للمنظمات غير الحكومية» (https://ec.europa.eu/echo/files/evaluation/security_review/files-ar/pdf…).

حتى حماس هذه المنظمات الفائض لقضية المناخ، يكاد يقتصر فقط على الموضوع الأثير للاتحاد الأوروبي، وهو التخفيف «Mitigation»، أي خفض الانبعاثات. فحماس «نشطاء» هذه المنظمات، كما رعاتهم في دوائر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، فاتر للغاية إزاء قضية مهمة للغاية مثل قضية التكيف «Adaptation»، لأنها تتعلق بتقديم الدعم للدول النامية للتكيف مع آثار تغير المناخ؛ وكذلك الحال بالنسبة لقضية التمويل وقضية الخسائر والأضرار «Loss and Damage».

علماً بأن قضية المناخ اليوم تتجاذبها مقاربتان اثنتان، المقاربة الأوروبية التي تعتبر أن مخاطر التغيرات المناخية، هي تحديات مستقبلية (أي أنها ليست حالّة ومستعجلة)، من حيث إن المادة السادسة من اتفاق باريس للمناخ تعالج قضية مستقبلية، وهي العمل من أجل عدم تجاوز درجة حرارة الطقس بحلول نهاية القرن 1.5 درجة مئوية؛ وإنه لذلك يجب اتخاذ إجراءات مشتركة لخفض انبعاثات الكربون لمقابلة هذا الهدف؛ ومقاربة الدول النامية التي تعتبر أن مخاطر وأضرار التغيرات المناخية تحدث الآن بالفعل، ولا تحتمل الإبطاء والمماطلة، وإنه لذلك يجب اتخاذ إجراءات لجبر الأضرار والخسائر التي منيت بها، والتي لا تزال تتعرض لها الدول النامية نتيجة لتاريخ طويل من تركيز الانبعاثات في الجو يعود إلى أنشطة التصنيع التي أطلقتها الدول الغربية في منتصف القرن التاسع عشر. بهذا المعنى تكون الدول النامية محقة حين تضع قضية التكيف «Adaptation» في موضعها الصحيح الذي لا يقل أهمية عن جهود التخفيف (Mitigation) من حدة الانبعاثات. فليس معقولاً أن يتم الإشهار والترويج لمطلب خفض الانبعاثات بنسبة 43% بحلول عام 2030 لإصابة هدف ال 1.5 درجة مئوية، من دون أن نرى القياسات الكمية نفسها في ما خص الأضرار والخسائر المناخية التي تُمنى بها الدول النامية، ومن دون سماع رأي أو صوت يعترض على هذا المنحى المناخي «الأيديولوجي» من قبل أولئك الأرثوذكسيين المناخيين. لهذا، فإن منظمات المجتمع المدني الحقيقية مطالبة بفرز تلك المزيفة المحسوبة عليها، ومنها العناصر المندسّة في صفوفها للعمل بأجندات تقع خارج نطاق وإطار عملها.

* خبير اقتصادي بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/jtbjrv62

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"