في ثقافة العنف واللّاعنف

00:27 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الحسين شعبان

من أين يأتي العنف؟ إشكالية يختلف حولها علماء الاجتماع والنفس والاقتصاد والسياسة والقانون والدين، وغيرهم، إلّا أنهم يتفقون على أن العنف ظاهرة قائمة ومستمرّة في المجتمعات البشرية، ولا بدّ من الحدّ منها. وتعود أسباب العنف حسب هؤلاء إلى ظروف الفقر والحاجة، والتفاوت الطبقي، والتعصّب الأيديولوجي والسياسي والقومي والديني والطائفي، وأوضاع التمييز والعنصرية والاستعلاء، وضعف حكم القانون، واختلالات شخصية، وأمراض نفسية، وغيرها.

 من يلجأ إلى العنف لا بدّ أن يكون متعصّباً، والمتعصّب يعتقد بأحقيّته وأفضليته ويزعم امتلاكه للحقيقة. والتعصب يولد التطرّف ومن يتطرّف إلى فكرته يعمل على تطبيقها حتى عن طريق العنف، وهكذا ينجب التطرّف عنفاً بالتحوّل من الفكر إلى الفعل فيُصبح سلوكاً. وإذا ما ضرب العنف عشوائياً فإنه يتحوّل إلى إرهاب. وإذا كان هدفه إضعاف ثقة الدولة بنفسها، وإضعاف ثقة المجتمع والفرد بالدولة، وكان عابراً للحدودن صار إرهاباً دولياً.

 وإذا كان العنف سائداً تاريخياً في جميع المجتمعات، إلّا أن ما يحدّ منه هو حكم القانون الذي يُعتبر أحد معايير المشروعيّة والدولة الناجحة، خصوصاً إذا تمّ تطبيقه وفقاً لمبادئ المساواة على الجميع، حكّاماً ومحكومين، فالقانون حسب مونتيسكيو مثل الموت لا ينبغي أن يستثني أحداً.

 وإذا كانت الدولة بعيدة عن «حكم القانون»، بغضّ النظر عن تسميتها مدنية أو دينية، فإنها ستفتقد المشروعية القانونية، فالمهم ربط فكرة الدولة بالحق والعدالة. وهناك دول مدنية، لكنها فاشية وديكتاتورية واستبدادية، بل إن بعضها بالغ في علمانيته لدرجة العداء للدين. وهناك من حاول تطبيق الشريعة بصورة تعسفيّة وتسلّطية.

 وإذا كان العنف أمراً لا بدّ منه لمنع التغوّل، فينبغي أن ينظمه القانون وتحتكره الدولة مثلما تحتكر امتلاك السلاح واستخدامه. وحتى لو مارست الدولة العنف بطريقة خاطئة، أو تعسّفية فيمكن الوقوف ضدّها وضدّ العنف الذي تمارسه، ولكن لا ينبغي منافستها باللجوء إلى العنف المضاد.

  صحيح أنه ليس كلّ متعصب هو متطرف بالضرورة، ويمكن أن يكون المرء متعصباً وهذا أمر يخصّه إذا كان مع نفسه ولم يتحوّل إلى سلوك ضدّ الآخر بمسوّغات دينية أو قومية، أو سياسية، أو حزبية، أو عشائرية، أو عائلية، أو تربوية، لكن التطرّف حين ينتقل إلى التنفيذ يصبح خطراً على المجتمع، لاسيّما برفض قيم التعايش والسلام والتسامح.

 والعنف يخضع للقانون الوطني، سواء كان عنفاً أسريّاً، خصوصاً ضدّ المرأة، أو الأطفال، أو في المدرسة، أو في المجتمع، أو تحت مزاعم فكرية، أو ثقافية، أو عشائرية، أو جهويّة، أو غيرها. أما الإرهاب فإنه يخضع في جزء منه للقانون الوطني والجزء الآخر للقانون الدولي بارتكاب جرائم الإبادة وجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم حرب، وكل دولة لها قوانينها لمحاربة الإرهاب، واقتلاع جذوره الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية، وغيرها.

 ولذلك فإن نشر ثقافة اللّاعنف المرتبطة أيضاً بحكم القانون والحق والعدل، هي كفاح ضد السائد عبر التاريخ، ففي داخل كل إنسان هناك نزعات لا عنفية وتسامحية وسلامية لها علاقة بما يسمى بالأنسنة، لأن الإنسان أخ الإنسان، والصراع يأتي بسبب تضارب المصالح والاستغلال والرغبة في الهيمنة والتحكّم تحت عناوين مختلفة، فضلًا عن بعض الحالات ذات الأمراض العصابية، وهذه جميعها تتغذّى على ثقافة الكراهية والحقد والثأر والكيدية، وإقصاء الآخر.

 ما نحتاج إليه هو إعادة النظر في مناهج التربية لرفع كل ما له علاقة بالعنف، أو التشجيع عليه، أو تبرير أعمال التمييز، أو عدم المساواة، بما فيها التمييز ضدّ المرأة، وهي بحاجة إلى إعادة نظر وحوار، فالحوار ضرورة لا غنى عنها لنشر ثقافة اللّاعنف والتعايش وقبول الآخر والاعتراف بالحق في الاختلاف، وهو ليس شكلاً من أشكال الترف الفكري.

ولكي تكون هذه الثقافة سائدة، فلا بدّ من توفّر إرادة سياسية عليا تستخدم القانون للحيلولة من دون انفلات العنف، ومن دون الإفلات من العقاب، فضلاً عن نشر ثقافة اللّاعنف بهدف السلم المجتمعي من دون إقصاء أو تهميش. والحوار يصبح اضطراراً مثلما هو خيار في المجتمعات التي جرت فيها تحوّلات، ولم تستكملن أو تستقر على شرعية ما، ولم تكسب رضا الناس، ولم تحقق منجزاً. 

 وإذا كان العنف سائداً بصورة استثنائية في عدد من البلدان العربية، فلا بدّ من البحث عن حلول استثنائية أيضاً، خصوصاً في ظلّ تعويم الشرعية الدستورية لاحتواء عناصر الصراع ونزع فتيل الأزمة والمحافظة على ما هو ممكن وتجنيب المجتمع الانهيار والحرب الأهلية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2549597u

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"