مصداقية الاحتياطي الفيدرالي

23:04 مساء
قراءة 4 دقائق

محمد العريان*

أصبحت الإخفاقات المتزايدة لبنك الاحتياطي الفيدرالي، والمرتبطة مباشرة بصنع السياسات والإشراف والتواصل، ذات تأثير أكبر، ليس في الأمريكيين فقط، ولكن أيضاً في بقية العالم. حيث ضلّت المؤسسة الأكثر أهمية في الاقتصاد العالمي طريقها، وعليها أن تعالج على وجه السرعة عيبين هيكليين.

 تحدث أندريه إستيفز مؤخراً، وهو أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في البنوك البرازيلية، عن الانهيار المفاجئ لبنك وادي السيليكون، وكيف أن «مخاطر أسعار الفائدة» التي أودت بالبنك المتعثر، واضحة ومعروفة لأي متدرب مصرفي في أمريكا اللاتينية. الغريب في الأمر، أن هذه الملاحظة قادمة من منطقة لا تنتهي فيها مشاكل القطاع المصرفي. ومع ذلك، فإن كلام إستيفز يعكس المخاوف المتزايدة في جميع أنحاء العالم بشأن السياسة المتبعة من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وتأثيراتها السلبية غير المباشرة في البلدان الأخرى.

في الواقع، هناك أسباب وجيهة للقلق. فخلال السنوات الثلاث الماضية فقط، أساء «الفيدرالي» التعامل مع دورة رفع أسعار الفائدة، وواجه مزاعم تداول داخلي بخصوص بيع وشراء الأوراق المالية، وتعثر في إشرافه على البنوك. ومن خلال التواصل غير المتسق، ساهم الفيدرالي بتأجيج تقلبات السوق بدلاً من تهدئتها في مناسبات عدة. إذ وجدت الأبحاث أن «تقلبات السوق» كانت أعلى بثلاث مرات خلال المؤتمرات الصحفية التي عقدها الرئيس الحالي جيروم باول، من تلك التي أجراها أسلافه.

وازدادت أهمية هذه الإخفاقات مع استمرار التضخم المرتفع منذ فترة طويلة جداً، والذي ضرب القوة الشرائية للناس وألحق الضرر بالفقراء بشكل خاص. إلى أن جاءت الانهيارات المصرفية، الشهر الماضي، لترفع مستوى الخطورة أكثر، وتدفع السلطات لاتخاذ تدابير حاسمة وتطلق ما يسمى «استثناء المخاطر النظامية». ومع ذلك، ربما تفرض هذه الاستجابة الآن عبئاً أكبر على جميع المودعين. خصوصاً بعد أن زادت الأحداث الأخيرة، بما في ذلك التهديد بضعف تدفق الائتمان، خطر وقوع الولايات المتحدة في الركود، ما أدى إلى انعدام الإحساس بالأمن والثقة في ما كان يعتبر اقتصاداً قوياً في السابق.

 إن فقدان المصداقية يؤثر بشكل مباشر في قدرة «الفيدرالي» على الحفاظ على الاستقرار المالي وتوجيه الأسواق بطريقة تتفق مع مهمته المزدوجة المتمثلة في الحفاظ على استقرار الأسعار ودعم الحد الأقصى من العمالة. وأنا شخصياً لا أذكر الوقت الذي انتقد فيه مسؤولون فيدراليون سابقون التوقعات الاقتصادية للمؤسسة، التي تعتبر مصدراً لتصميم وتنفيذ سياستها النقدية.

 ولا أستطيع أن أذكر أيضاً الوقت الذي كانت فيه الأسواق رافضة للغاية للتوجيهات المستقبلية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. وكان الاختلاف بين مسار سعر الفائدة المعلن من بنك الاحتياطي الفيدرالي لعام 2023 وتوقعات السوق، واسعاً لحد نقطة مئوية كاملة مؤخراً. وهذه فجوة كبيرة بشكل ملحوظ بالنسبة لبنك مركزي في قلب النظام المالي العالمي.

إلى ذلك، بدأت إخفاقات «الفيدرالي» المتكررة، والتداعيات السلبية لذلك، تطفو على واجهة الأحداث الدولية. ففي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، نشر الصحفي إدوارد لوس من فاينانشال تايمز مقالة بعنوان «العالم بدأ يكره الفيدرالي»، وبأن جو بايدن، وليس البنك المركزي الأمريكي، هو الذي يمتلك الأدوات اللازمة لتخفيف وطأة الضربة العالمية التي تسببها السياسة المحلية. ومؤخراً، وخلال مؤتمرهم الصحفي، أشار المسؤولون السويسريون الذين يتعاملون مع البيع الإجباري الطارئ لثاني أكبر بنك في بلادهم إلى فشل بنك وادي السيليكون بوصفه سبباً من أسباب مشاكلهم.

 ولا عجب وجود تحركات عنيفة داخل جزء من منحنى العائد الذي تأثر بشدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي، والذي يعمل كأساس لمجموعة من الأنشطة المالية، المحلية والدولية. فعلى سبيل المثال، خلال الأسابيع القليلة الماضية، تم تداول عائد السنتين في نطاق غير عادي للغاية بلغ 1.5 نقطة مئوية، ما أثار الحديث عن «تداول السندات الجنوني» داخل أوساط الإعلام المالية المتخصصة، وخارجها.

 وتأتي كل هذه الاختلافات بين مسار أسعار الفائدة وتوقعات السوق في أعقاب أخطاء بنك الاحتياطي الفيدرالي السابقة. فبعد الإصرار على توصيفه للتضخم بأنه «مؤقت» لمعظم عام 2021، فشل المركزي في إحداث رد فعل مناسب وفوري بعد تراجعه عن هذا التشخيص الخاطئ في وقت متأخر. ونتيجة لذلك، اضطر للقيام بسلسلة غير مسبوقة من ارتفاعات أسعار الفائدة بمقدار 0.75 نقطة أساس لأربع مرات متتالية.

 وفي هذه المرحلة، بات بمعلوم الجميع أن أقوى بنك مركزي في العالم قد انزلق في تحليلاته وتوقعاته وصنع سياساته واتصالاته. وهذه هي الأخبار السيئة، أما النبأ السار الوحيد فهو أن الاحتياطي الفيدرالي لا يزال بإمكانه تصحيح الوضع من خلال اعتماد نهج استراتيجي أفضل لتحليلاته وإجراءاته، ومعالجة مشكلتين رئيسيتين:

 المشكلة الأولى هي «التفكير الجماعي»، إذ يبدو أن صانعي القرار في الاحتياطي الفيدرالي يفتقرون إلى تنوع وجهات النظر والخبرة الشاملة الموجودة في البنوك المركزية الكبرى الأخرى. وسيكون من الأفضل لهم أن يحذوا حذو بنك إنجلترا، ويضيفوا عضوين مستقلين خارجيين للتصويت إلى جانب أعضاء لجنة صنع السياسة في الاحتياط الفيدرالي.

أما المشكلة الثانية فتتعلق ب «المساءلة الأساسية». فرغم ظهور رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي أمام الكونغرس مرتين سنوياً، إلا أن جلسات الاستماع هذه لا تركز على ما يهم السوق حقيقة، ألا وهو «تصميم سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي وتنفيذها». لذلك تحتاج العملية إلى مزيد من المساءلة، كأن يقدم المتخصصون في القطاع تقاريرهم إلى الكونغرس قبل إدلاء التنفيذيين بشهادات المجدولة.

 وجادل البعض فيما إذا كان سيتم تذكر بنك الاحتياطي الفيدرالي بقيادة باول، إلى جانب الاحتياطي بقيادة بول فولكر الذي أنهى المستويات المرتفعة للتضخم التي ضربت الولايات المتحدة طوال السبعينات. أو إلى جانب آرثر بيرنز، الرئيس العاشر لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي فتح الباب الواسع أمام الركود التضخمي. لكن ما يقلقني هو أن ينتهي الأمر بتذكره في فئة خاصة به، مثل: «الفيدرالي الذي قوّض مصداقيته واستقلاليته السياسية، ودور أمريكا الراسخ في قلب الاقتصاد العالمي».

* رئيس كلية كوينز بكامبريدج ومستشار أليانز وغراميرسي(بروجيكت سينديكيت)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/44ucupc6

عن الكاتب

خبير اقتصادي وكبير المستشارين الاقتصاديين لشركة أليانز Allianz

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"