رؤية واشنطن للاقتصاد العالمي

22:37 مساء
قراءة 4 دقائق

داني رودريك

أمام الولايات المتحدة حالياً أجندتان تتنافسان على تشكيل سياساتها الاقتصادية داخلياً وخارجياً. تتمثل إحداها بالتركز على بناء اقتصاد أمريكي شامل ومرن ومزدهر ومستدام. فيما تستهدف الأخرى الجغرافيا السياسية والحفاظ على التفوق الأمريكي على الصين. فهل يمكن لهاتين الأولويتين المتصارعتين والمتعارضتين أن تتعايشا مع بعضهما؟ فهذا ما يعتمد عليه مستقبل كلا البلدين والاقتصاد العالمي الأوسع.

تُمثل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن خروجاً جذرياً عن الإدارات الديمقراطية السابقة؛ إذ تتبع سياسات صناعية طموحة لإحياء التصنيع المحلي وتسهيل التحول الأخضر. كما تبنّت موقفاً أكثر صرامة تجاه الصين من أي إدارة سابقة، بما فيها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، وتعاملت مع نظام بكين كخصم، فارضة ضوابط على الصادرات والاستثمار في التقنيات الحيوية، من بين أمور أخرى.

مع ذلك، وحتى وقت قريب، لم تضع إدارة بايدن رؤية متماسكة تجمع بين هذه العناصر المختلفة وتطمئن الدول الأخرى، بما فيها الصين، أن استراتيجيتها الاقتصادية لا تركز على المواجهة والأحادية والحمائية. لكن التصريحات الأخيرة لوزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان تشير إلى أن الإدارة تتخذ الآن خطوات لمعالجة هذه القضية، مما يُظهر ولادة إجماع جديد في واشنطن. وذكر سوليفان في تصريحاته الركائز الخمس لأجندة إدارة بايدن الاقتصادية الدولية، والتي أطلق عليها «السياسة الخارجية للطبقة الوسطى». وتهدف الركيزة الأولى، وهي «الاستراتيجية الصناعية الأمريكية الحديثة»، إلى تحفيز الاستثمار الخاص في القطاعات التي تعتبر بالغة الأهمية لازدهار الولايات المتحدة وأمنها.

والثانية تشمل العمل مع الديمقراطيات المتقدمة الأخرى والبلدان النامية؛ لضمان تبني حلفاء الولايات المتحدة سياسات مماثلة لتحسين «القدرة والمرونة والشمولية». أما الركيزة الثالثة فهي تبنى أمريكا «شراكات اقتصادية دولية جديدة» تعالج التحديات العالمية مثل تغير المناخ والأمن الرقمي، وتخلق فرص العمل والمنافسة الضريبية للشركات، وتبتعد عن الصفقات التجارية التقليدية التي تركز على الوصول إلى الأسواق. وتتمثل الركيزة الرابعة بسعي الولايات المتحدة لتوليد تريليونات الدولارات من الاستثمارات في الاقتصادات الناشئة، وتقديم المساعدة إلى البلدان التي تواجه ضائقة ديون.

وفي حين أن كل مجال من هذه المجالات يمثل تحدياً فريداً بحد ذاته، فإن بعضها مثير للجدل بشكل خاص، وتنظر إليه البلدان الأخرى على أنه «حمائية»، مثل متطلبات سياسة «اشترِ أمريكا»، التي تشترط أن تعتمد المشاريع التي تمولها الحكومة على مواد ومكونات منتجة محلياً، وأن تنجزها شركات أمريكية بعمال أمريكيين.

لكن الركيزة الخامسة، والتي تركز على «حماية التقنيات الأساسية لدينا»، يمكن أن يكون لها أكبر تأثير على مستقبل الاقتصاد العالمي. ويمكن الإشارة إلى أن ضوابط التصدير الشاملة لإدارة بايدن، والمصممة لمنع الصين من الوصول إلى أشباه الموصلات المتقدمة، تُعدّ أوضح مظهر من مظاهر هذه الركيزة. وبحسب ما ورد تخطط الإدارة لفرض قيود إضافية على الاستثمارات الأمريكية في شركات التكنولوجيا الصينية، لا سيما في القطاعات المهمة استراتيجياً مثل الرقائق الدقيقة.

لطالما اتهم المسؤولون الصينيون الولايات المتحدة بفرض حصار تكنولوجي على بلدهم، وإقحامها بحرب اقتصادية شاملة. لكن سوليفان عرض وجهة نظر مختلفة، وشبّه السياسة باستراتيجية «ساحة صغيرة وسياج عالٍ» التي توازن بين المخاطر الأمنية والفوائد التعويضية. ووصف إجراءات الإدارة الأمريكية بأنها «قيود مصممة بعناية» مدفوعة بمخاوف الأمن القومي، وتستهدف شريحة ضيقة من التقنيات المتقدمة.

وهو ما تماشت معه جانيت يلين في خطابها الذي ألقته بمدرسة جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة أواخر إبريل/نيسان الماضي، حين قالت، إن الضوابط على الصادرات تهدف إلى معالجة مخاوف الأمن القومي، وستظل ضيقة النطاق ومستهدفة، ومؤكدة أن الولايات المتحدة لا تحاول تقويض النمو الاقتصادي والتحديث التكنولوجي في الصين.

تشير التوضيحات التي قدمها سوليفان ويلين إلى أن الإدارة الأمريكية تتفهم مخاطر فرض قيود تجارية واستثمارية واسعة للغاية باسم الأمن القومي، ومثل هذه الإجراءات ستضر بالاقتصاد العالمي، ومن المحتمل أن تأتي بنتائج عكسية من خلال استفزاز الرد الصيني.

تجدر الإشارة إلى أن النظام العالمي المستقر يقوم على القواعد والممارسات التي تعترف بحق كل دولة في حماية مصالحها الوطنية، ويتطلب قواعد تضمن الدفاع عن هذه المصالح بشكل جيد لا يضر بالدول الأخرى. نعم، قد يكون تحقيق ذلك أمراً صعباً، لكنه ليس مستحيلاً.

عندما تسعى الحكومات إلى تحقيق أهداف الأمن القومي من خلال سياسات أحادية الجانب قد تؤثر سلباً على البلدان الأخرى، ويتعين على صانعي السياسات تحديد تلك الأهداف بوضوح، والحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة، واقتراح علاجات محددة تخفف من الآثار السلبية لتلك السياسات. ولا ينبغي اتباع السياسات لغرض معاقبة الطرف الآخر أو إضعافه على المدى الطويل، ولا ينبغي أيضاً أن يصبح الفشل في التوصل إلى حل وسط متفاهم عليه في منطقة ما ذريعة للانتقام في مجال غير ذي صلة.

تشير تصريحات يلين وسوليفان الأخيرة إلى أن السياسات الاقتصادية الخارجية لإدارة بايدن ستتماشى مع هذه المبادئ. لكن تبقى بعض الأسئلة المهمة دون إجابة. ومنها على سبيل المثال، هل كانت ضوابط التصدير على الرقائق المتقدمة محسوبة جيداً، أم أنها ذهبت بعيداً في تخريب القدرة التكنولوجية الصينية دون الإفادة بما يكفي من الأمن القومي للولايات المتحدة؟ وبالنظر إلى أن القيود يتم توسيعها لتشمل قطاعات حيوية أخرى، مثل الذكاء الاصطناعي والاندماج النووي، فهل لا يزال بإمكاننا وصفها بأنها تستهدف فقط «شريحة ضيقة» من التكنولوجيا؟

كما أنه ليس من الواضح ما إذا كانت مخاوف الأمن القومي المزعومة حقيقية أم أنها مجرد ذريعة لاتخاذ واشنطن إجراءً أحادي الجانب. فهل الولايات المتحدة مستعدة لقبول نظام عالمي متعدد الأقطاب تتمتع فيه الصين بالسلطة الكافية لتصنع القواعد الإقليمية والعالمية؟
*أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية «جون إف. كينيدي» للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد(بروجيكت سينديكيت)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycka5yuv

عن الكاتب

أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية «جون إف. كينيدي» للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد(بروجيكت سينديكيت)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"