مسؤوليات البنوك المركزية

22:41 مساء
قراءة 4 دقائق

يورغن ستارك*

مع استمرار انخفاض أسعار الطاقة، وثبات التأثير الأساسي لارتفاع الأسعار الاستهلاكية العام الماضي، من المتوقع أن تنخفض معدلات التضخم في جميع أنحاء العالم الغربي. لكن واقع الحال يقول إنه من المرجح أن تظل الأسعار مرتفعة بشكل غير مقبول في المستقبل المنظور، ما يجعل استقرار مؤشر المستهلك أمراً بعيد المنال.

كما أنه من المتوقع أن يؤدي ارتفاع الأجور والتوترات الجيوسياسية المستمرة، إلى جانب العوامل الهيكلية طويلة الأجل مثل الاتجاهات الديموغرافية وانحسار العولمة، إلى إبقاء توقعات التضخم أعلى من أهداف البنك المركزي، ما يثقل كاهل الاقتصادات الغربية والمجتمعات على المدى الطويل.

يتطلب التواصل الفعال قدراً كبيراً من البصيرة والنقد الذاتي والتواضع، وقد حان الوقت للبنوك المركزية لاتخاذ إجراءات حاسمة وتحسين استراتيجيات التواصل الخاصة بها. وعلى صانعي السياسة أن يوضحوا وبشكل عاجل أسباب التضخم المرتفع الحالي، وعواقبه، والتدابير المتخذة لمعالجته. يجب ألا يقتصر هذا التواصل على المشاركين في السوق؛ حيث إن رأي عامة الشعب لا يقل أهمية عنهم، إن لم يكن يفوقه. فبعد كل شيء، المواطنون هم أهم شركاء البنوك المركزية في مكافحة التضخم وحماية استقلاليتهم.

لقد ارتكبت البنوك المركزية في الماضي القريب أخطاء كثيرة، على رأسها التشخيص الخاطئ لاستقرار الأسعار والوصف غير المقبول للتضخم بأنه «حالة مؤقتة». وعلى مدى العقود الماضية، أدت سياستهم النقدية غير المتكافئة إلى انخفاض أسعار الفائدة بشكل تدريجي، وقللت من مجال المناورة المحتمل، وصبغت السوق بتشوهات كبيرة. مع ذلك، وعلى الرغم من الأحداث والأدلة السابقة على حجم الضرر المُتأتي عن سياستهم التوسعية للغاية، والمتمثلة بأسعار الفائدة المنخفضة والتوسع الهائل في الميزانية العمومية، أرجأ محافظو البنوك المركزية مراراً وتكراراً إنهاءها.

وكان صانعو السياسات بطيئين للغاية في إدراك القوى التضخمية التي صنعتها اضطرابات سلسلة التوريد المرتبطة بفيروس كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا. ومن خلال إهمال أو إغفال المؤشرات الاقتصادية والنقدية المهمة، اعتبروا لاحقاً أن ارتفاع أسعار المستهلك ظاهرة «عابرة» لا تتطلب اتخاذ أي إجراء فوري، وظهرت أمام الأسواق والجمهور إشارات مضللة بأن معدلات الفائدة ستبقى منخفضة حتى عام 2024. لكن على العكس من ذلك، وضعت هذه التشخيصات الخاطئة والاستجابة المتأخرة للتضخم البنوك المركزية العالمية، بقيادة الاحتياطي الفيدرالي، أمام خيار واحد، وهو متابعة دورة الزيادات الحادة في أسعار الفائدة التي فاجأت المشاركين في السوق بحالة من عدم اليقين وأدت إلى تشوهات واسعة.

ومن خلال الانحراف عن تفويضهم الأساسي المتمثل في ضمان استقرار الأسعار، وسعيهم وراء أهداف سياسية مختلفة التوجهات، أضرّ محافظو البنوك المركزية، الذين تم الاحتفاء بهم كأبطال، بشدة بمصداقيتهم. خصوصاً بين بلدان منطقة اليورو؛ حيث أدى تحليلهم الفاشل وسوء التقدير المهني إلى التشكيك في موثوقية وفاعلية صنع السياسات والتوصيات للحكومات. على الرغم من كل ما تحمله معها المحاضرات داخل الجامعات والمؤسسات البحثية من اهتمام، فإن هدفها الأساسي هو التأكيد على أهمية دور محافظي البنوك المركزية. ومع ذلك، فالخطاب الأكاديمي الغزير فقط لن يساعد على كسب وُد الجمهور الأوسع. ولاستعادة ثقة الرأي العام، يجب على البنوك المركزية التخلي عن برجها العاجي النقدي. ففي المراجعة الاستراتيجية لعام 2021، صرح البنك المركزي الأوروبي بأنه يجب عليه استخدام لغة أكثر سهولة في الاتصالات المستقبلية، وتثقيف الجمهور حول القضايا المعقدة دون المبالغة في تبسيطها. لكن لسوء الحظ، لم يقم البنك المركزي الأوروبي بتحديث لغته أو أصبح أكثر ملاءمة لعامة الناس منذ ذلك الحين.

إن البنك المركزي الأوروبي، المسؤول عن ضمان استقرار أسعار العملات في 20 دولة أوروبية، بعيد جداً عن الجمهور الذي يخدمه، وعليه بذل جهد أكبر بكثير لسد الفجوة. ونظراً لأنه يتواصل باللغة الإنجليزية بشكل أساسي، يجب ترجمة كل بيان شفهي ومكتوب إلى اللغات الوطنية؛ إذ تقع مهمة المشاركة العامة في الغالب على عاتق البنوك المركزية المحلية، على الرغم من عدم تحديد هذا الدور بوضوح.

في حقبة ما قبل اليورو، تواصلت البنوك المركزية مع المواطنين بشكل أكثر فاعلية، وحافظت على مستوى من الثقة يفتقر إليه البنك المركزي الأوروبي حالياً. لكن منذ طرح العملة الموحدة للكتلة قبل 25 عاماً تقريباً، شاب العلاقة بين البنوك المركزية الوطنية والجمهور الجفاء إلى حد كبير. وفشل صانعو السياسة النقدية الوطنية في العمل كوسطاء فاعلين للبيانات، ويرجع ذلك جزئياً إلى الخلافات الداخلية لمجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي.

في أوقات التضخم المرتفع، من الضروري إعادة الروابط بين البنوك المركزية الوطنية والجمهور. ولتحقيق ذلك، يجب على البنوك التخلص من المهام غير الضرورية، وتحرير القدرات، والتركيز فقط على مهامها الأساسية، وإطلاق حملات توعية عامة شاملة. ولن تستعيد البنوك المركزية مصداقيتها وثقة الشعوب ما لم تتحمل المسؤولية وتتعلم من أخطائها السابقة.

لكن لسوء الحظ، يبدو أن البنوك المركزية غير مستعدة بعد للانخراط في هذه العملية الضرورية للتغيير الذاتي. فحتى الآن، وحده بنك الاحتياطي الأسترالي من أقر بأخطاء سياسته السابقة واتخذ خطوات لزيادة مشاركة المواطنين. وعلى البنوك المركزية الأخرى أن تحذو حذو كانبرا، على أمل أن يلتئم الجرح الناجم عن أخطائهم السابقة.
*عضو المجلس التنفيذي السابق للبنك المركزي الأوروبي، ونائب محافظ البنك الألماني السابق (بروجيكت سينديكيت)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/8hz5f9kb

عن الكاتب

عضو المجلس التنفيذي السابق للبنك المركزي الأوروبي، ونائب محافظ البنك الألماني السابق (بروجيكت سينديكيت)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"