هل فقد لبنان دوره؟

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. خليل حسين
ثمة عوامل استراتيجية ونوعية تسهم في تحديد موقع الدولة ودورها في المحيطين، الإقليمي والدولي، وعادة ما تتضافر عوامل عدة أخرى تسهم أيضاً في تعزيز الدور وفعاليته، ومن الطبيعي أن تظهر قوة الدول في بعض الفترات، ثم تضمر، وأحياناً تتهاوى، وهذا ما مرّ به لبنان، وما ينتظره في قادم الأيام.

ولبنان القائم أصلاً على توازنات ذاتية وموضوعية دقيقة، غالباً ما تأثر بقوة بعوامل، داخلية وخارجية، حددت مستوى موقعه ودوره، وغريب المفارقات في ذلك، أنه لم يتمكن في خلال قرن من الزمن من إرساء أسس ثابتة وصلبه لتعزيز وتثبيت الخصائص التي ينبغي أن يوفرها.

والأغرب من كل ذلك، أن ثمة خاصيات لا تجتمع في نظام سياسي ويكون قابلاً للحياة، فيما لبنان تمكن، رغم ذلك، من إعادة إنتاج نظامه والاستمرار، ولو بمظاهر وأسس هشة، كل عقد أوعقدين من الزمن، إلا أن ظروفه الحالية تنبئ بمسارات مختلفة وتكاد تكون من العوامل التي تؤدي إلى تفتت النظم، وتنهي موقعها ودورها، وصولاً إلى انحلالها وزوالها.

لقد تعّود اللبنانيون على تماهي أزماتهم، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مع عوامل ضعف النظام السياسي، وفي كثير من الأحيان لم يكن ممكناً التمييز بدقة بين أسباب الأزمات وطرق حلها، أو تجاوزها، بل غالباً ما كانت تختلط القضايا وتمتزج أسبابها وعوامل انفجارها، فيما أزماته الحالية تبدو أكثر تعقيداً مع مسببات خارجية لا قدرة له على دفعها، أو حتى التأثير فيها، وبالتالي باتت اليوم تهدد موقعه ودوره، وصولاً إلى كيانه كدولة، وهي أخطر المراحل التي مر بها لبنان منذ إنشائه في عام 1920.

ثمة تركيبتان اساسيتان مرّ بهما النظام الدستوري السياسي، الأول ميثاق 1943، والثاني اتفاق الطائف 1989، وبينهما مشاريع عدة، لم يستمر بها التداول طويلاً، كالوثيقة الدستورية 1976 والاتفاق الثلاثي 1986 وغيرها، فيما تشترك كل المشاريع بالصيغ الطائفية والمذهبية التي تعتبر أساس العلل والمشاكل التي يتخبط فيها.

وغريب المفارقات في الأمر عدم اعتراف الجميع بأن صيغ النظام المقترح تعاني نفسها من أسباب فشلها، فيما تظهر اليوم عوامل وأسباب إضافية أشد خطورة وفتكاً بالمجتمع والنظام الهش أساساً.

فالشواهد والأدلة كثيرة على تضعضع وانهيار النظام وقرب انفجاره، فالمسألة لم تعد أزمة حكم، بل أزمة نظام، والمشكلة لم تعد تركيبة اجتماعية هشة قائمة على توازنات أعدت سلفاً وبدقة، بقدر ما باتت التركيبة الاجتماعية الحالية تعاني من أورام ديموغرافية ليست حميدة، وسط نظام اقتصادي مالي منهار، وغياب تام لمؤسسات الدولة، أو الأصح السلطة القائمة، في وقت لا يبدو المحيطان، الإقليمي والدولي، قادرين على توفير الظروف الملائمة لوقف الانهيار، إن لم يكن إعادة التعويم مثلًا، ذلك في ظل انقسام مجتمعي عمودي عميق.

يغرق لبنان اليوم في فراغ رئاسي غير مسبوق بأثره التدميري، وفي ظل حكومة تصريف أعمال مشلولة، بالنظر لطبيعة تركيبتها وامتداداتها، وانهيار شبه كامل في طبيعة النظام ووظائفه، الداخلية والخارجية، وغياب تام للحد الأدنى لمقومات الاستمرار المجتمعي، بكل متطلباته الرئيسية؛ وفوق ذلك كله انهيار تام للتركيبة الديموغرافية التي تعاني من خلل رئيسي أساساً، حيث نصف المقيمين، إن لم يكن أكثر في لبنان حالياً، هم نازحون ولاجئون، وسط تنافس حاد جداً بين اللبنانيين وغيرهم على مقومات البقاء من عمل ووسائل حياة.

إن كل تلك الأسباب والعوامل تنذر بانفجار مجتمعي ذات طابع نزاعي أمني عسكري، سيقضي تماماً على كل أمل بإعادة إنتاج نظام سياسي مجتمعي يرعى مصالح اللبنانيين، ومقومات بقائهم في نظام قابل للحياة، ولو في الحدود الدنيا. فهل فقد لبنان دوره وموقعه الذي أسعفه سابقاً في إعادة إنتاج نظامه؟ أم ثمة أسئلة موجعة ينبغي الإجابة عنها بجرأة بقدرة العالم العارف؟

للأسف، ثمة إجابات غير وردية تحكمها ظروف ووقائع، داخلية وخارجية، غير مطمئنة، ربما تجبرنا على تأكيد المؤكد من انتظار صور سوداء أشد قتامة وقسوة مما اعتاد عليه اللبنانيون في قرن ونيف من الزمن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y5hdm3cf

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"