طريق الدبلوماسية الاقتصادية

00:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

الدبلوماسية الاقتصادية فرع من فروع الدبلوماسية، وهي علم وفن في آن واحد، وبمراكمة المعلومات تصبح في نهاية المطاف رصيداً معرفياً يحتوي على خبرات يمكن استثمارها بما يخدم أهداف السياسة الخارجية ويتكامل مع عناصر الدبلوماسية الأخرى.

ووفقاً لذلك يُفترض أن تُرسم السياسات وتُصاغ الاستراتيجيات في العلاقات الدولية باستخدام المهارات التفاوضية وبراعة المفاوضين للتوفيق بين مصالح القطاع الخاص، وما يمثّله من نفوذ اقتصادي فاعل، وتوجّهات الدولة واستراتيجياتها، وكلّ ذلك يتمّ بتوظيف مصادر القوّة المادية والمعنوية، الصلبة والناعمة، لتحقيق أهدافها بوسائل مقنعة ومشجّعة.

وقد نشأت الحاجة تاريخياً لإبرام اتفاقيات ومعاهدات لتنظيم علاقات الدول، خصوصاً بعد حروب ونزاعات مسلحة، وذلك عبر المفاوضات المباشرة وغير المباشرة. وتُعتبر اتفاقية ويستفاليا لعام 1648، التي أنهت «حرب الثلاثين عاماً» في أوروبا، وقبلها «حرب المئة عام»، التي راح ضحيّتها عشرات الملايين من البشر، محطّة مهمة في الدبلوماسية الاقتصادية، خصوصاً الاعتراف بالسيادة واحترام حق العبادة وأداء الطقوس والشعائر الدينية بحريّة، فضلاً عن تنظيم مرور البضائع والسلع ضمن قواعد تم الاتفاق عليها.

وإذا كانت السياسة امتداداً للحرب أو وجه آخر من وجوهها، حسب المنظّر العسكري البروسي كلاوزفيتز، فإن الدبلوماسية، بما فيها الاقتصادية، ستكون حرباً بوسائل ناعمة، لأن امتلاك القوّة يوازي استخدامها، حيث تُعتبر عامل ردع، وبديلاً عن الحرب أحياناً، كما هي بالنسبة للدول النووية مثلاً، لأن الحرب تنمو في رحم السياسة، والسياسة في جزء مكثّف منها حرب بوسائل ناعمة اقتصادية وثقافية وإعلامية ونفسية وغير ذلك، وتبقى الحرب وسيلة والسياسة هي الغاية، أما الهدف فهو إكراه الآخر (العدو أو الخصم)، ودفعه للتسليم بإرادة الطرف الآخر وتنفيذ ما يريده بإقناعه أو بإرغامه، بما فيه عبر الوسائل الاقتصادية.

يمكن القول إن الدبلوماسية الاقتصادية هي إحدى الوسائل الحيوية، لتحقيق استراتيجيات الدولة في العصر الحديث، لما للاقتصاد من دور كبير ومؤثر، فما بالك حين نكون في زمن العولمة وثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي في ظلّ الطور الرابع للثورة الصناعية.

وقيل في الحرب العالمية الأولى «من يملك النفط يسيطر على العالم، لأنّه سيتحكّم بوقود الطائرات والمركبات والمحرّكات، التي يعتمد عليها العالم في الحروب آنذاك»، وتعاظمت أهمية النفط في الاقتصاد العالمي خلال الحرب العالمية الثانية. وكان تأسيس منظمة أوبك في بغداد (14 أيلول / سبتمبر 1960) تجسيداً لواقع يعترف بأهمية النفط. وحصل في حرب تشرين/ أكتوبر التحريرية العام 1973 استخدام النفط سلاحاً فعّالاً في المعركة، وهو ما أحدث «الصدمة النفطية الأولى» ضدّ «إسرائيل» والغرب، الذي ظلّ يقف خلفها ويمدّها بالعون. وإضافة إلى النفط، تُعتبر المياه أحد الأسلحة الخطرة، لاسيّما في منطقة الشرق الأوسط.

اليوم وبعد انهيار الكتلة الاشتراكية وهيمنة واشنطن على القرار الدولي لنحو عقد ونصف العقد من الزمن، أخذ المشهد الاقتصادي العالمي يتغيّر، وإن ببطء شديد، بصعود اللّاعب الصيني كمنافس قوي للاعب الأمريكي، وترافق ذلك مع بداية استعادة روسيا لجزء من مكانتها في نهاية العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، فضلاً عن تأسيس تجمّع اقتصادي، عُرف باسم دول البريكس، ضمّ الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وقد توسّع مستقطباً قوى أخرى، الأمر الذي ساهمت فيه الدبلوماسية الاقتصادية إلى حدود كبيرة.

هكذا بدأت إرهاصات قيام نظام دولي جديد بتعدّدية قطبية، تتضّح ملامحه ويزداد فرز الألوان فيه أكثر فأكثر، وإن كان هذا النظام لا يخلو من تحدّيات هدفها عرقلة تكوّنه، أساسها نظام العقوبات الأمريكية ضدّ الصين، فضلاً عن العقوبات على روسيا بسبب حربها في أوكرانيا، إلّا أن ذلك، وإن كان يُعرقل أو يؤخّر قيام تفاهمات سياسية واقتصادية جديدة، لكنه لا يستطيع أن يمنع تشكّل نظام دولي جديد، في ظلّ معطيات مادية ومعنوية وتطورات محتملة ومزايا اقتصادية، تلعب فيها الدبلوماسية دوراً مهماً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/35vr2xy3

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"