د. علي محمد فخرو
ظنت الأجيال السابقة أن دحر الاستعمار وإخراجه من أوطانها سيُنهي الحقبة الاستعمارية، وسينقل تلك الأوطان إلى رحاب حرية الاستقلال الوطني والقومي. لكن الاستعمار، وجُلّه تقريباً هو استعمار غربي من قِبل أمريكا وبعض دول أوروبا، لا يعرف الخجل من أفعال ماضيه ولا من أفعال حاضره، ولا يعرف حدوداً لأطماعه وتدخلاته في شؤون الغير وتذكيرهم بتميّز وهيمنة حضارة الغرب الكونية الأبدية على حضاراتهم المتخلفة في كل مجال... لا يعرف حدوداً لأطماعه في الاستيلاء على كل ذرة من خيرات وثروات الآخرين.
هذه العقلية المتجذرة في أنظمة حكم ومؤسسات اقتصاد دول الاستعمار هي التي تفسر ما نراه أمامنا، هنا في الشرق الأوسط وفي بلدان الآخرين، من مشاهد سياسية وأمنية استخباراتية وعسكرية تذكّرنا يومياً بأن حقبة الاستعمار السابقة تعود بصور أقبح، وبمخاطر أشد، وبتسهيلات داخلية وإقليمية أسهل، وأيسر، وأقل كُلفة.
وإلا فكيف تسمح فرنسا لنفسها بأن تغضب وتهدد بالتدخل العسكري وبشتى أشكال العقاب الاقتصادي والمالي تجاه حدث محلي في دولة النيجر الإفريقية، وهو لا يخصها ولا يقع ضمن مسؤولياتها القانونية؟ والسبب في حقيقته ليس حباً في شعب ذلك البلد الفقير المستباح، وإنما طمعاً في الاستحواذ الاستغلالي الأبدي على ثروات اليورانيوم وغيرها الموجودة في ذلك البلد.
وإلا أيضاً كيف تسمح فرنسا لنفسها بالتصرف في الشأن السياسي والمالي اللبناني الداخلي، وكأنها هي التي تحكم وهي التي ما زالت موجودة في مستعمراتها القديمة؟
وإلا كيف تسمح أمريكا لنفسها بأن تدير الشأن الفلسطيني والليبي والسوري والعراقي والسوداني وكأن كل تلك البلدان هي ولايات أمريكية خاضعة لسلطة الحكم في واشنطن؟ يومياً تعلن دون خجل الملاحظات والانتقادات والتهديدات، ويومياً ترسل الوفود لتُشعر الآخرين بأن حل هذا الموضوع أو ذاك يجب أن يمر من خلال واشنطن أولاً وإلا فإنه لن يصل قط إلى أي حل، كما فعلوا مثلاً بمباحثات أوسلو الشهيرة حين صادروا الموضوع الفلسطيني من الأمم المتحدة وأبقوه في أيديهم المرتبطة بمصالح اللوبيات المالية في كل مكان، وبكل ممارسات عرفها الاستعمار طوال تاريخه.
وإلا أيضاً فما دخل أمريكا في كل أمر داخلي في كل دول آسيا ودول أمريكا الجنوبية وحتى في أوروبا، حيث تخطط وتوجه وتهدد وتعاقب وتقف في وجه كل محاولة استقلالية، حتى لو كانت ديمقراطية؟
تدخّل تلك الدول الاستعمارية، مما ذَكَرنا ومما لم نذكر، ما كان لينجح ويخلق الفوضى في كل مكان ويهين كل تلك الشعوب لولا وجود الفراغ السياسي والأمني والاقتصادي الذي سمحت بوجوده أنظمة حكم ضعيفة في الداخل، ومشوشة في محيطها الإقليمي، وغير مشاركة لمجتمعاتها المدنية في اتخاذ القرارات وفي حمل المسؤولية.
لا يعرف الإنسان إن كان رؤساء كل تلك الدول يدركون مدى وشدة التأثيرات المدمرة لنفوس وعقول الشعوب، والتي تقودها إلى الشعور بالعجز، كلما تصحو تلك الشعوب يومياً لترى وتسمع بتلك التدخلات الاستعمارية بينما تظل الساحات دون من يرفضون أو يدعون للتكاتف لمواجهة تلك الظاهرة المضحكة المبكية. لكأن الشلل أو اللامبالاة قد أصابا تلك الأنظمة عبر القارات كلها.
لسنا بحاجة إلى من يذكّرنا بهذه المحاولة المحدودة أو تلك، فذلك لن يكفي ولا يليق بإنسانية شعوب كل تلك البلدان في هذا العصر البليد المختطف الذي أُفرغت كل طاقاته لتنحبس في مهرجانات الغناء المسطح المبتذل، والركض وراء الاستهلاك الطفولي النهم، وقبول كل أنواع الشذوذ والانحطاط الأخلاقي.
هل من هبّات غضب تُزيل هذا الغبار الخانق وتحرر الغالبية الساحقة من شعوب العالم من هيمنة قلة أنانية استعمارية؟