نزوح لبنان الرئاسي

00:22 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. خليل حسين

لم يعد هناك أدنى شك بخروج انتخابات الرئاسة اللبنانية من يد اللبنانيين، وثمة وقائع ومعطيات استجدت تشير إلى نزوح رئاسي لا تحده معطيات تاريخية ولا حدود جغرافية، أي بمعنى من الصعب احتواء تاريخ محدد للإنجاز أو التكهن بعدد المتدخلين دولاً أو فواعل إقليمية أو دولية، وعليه ثمة ما يشبه النزوح الذي يلامس فراراً يكرس فراغات قاتلة.

في الماضي القريب عُلقت آمال كبيرة على المبادرة الفرنسية في وقت تُرك لها مجال ودعم إقليمي عربي ودولي من بينها أمريكا، لكن سرعان ما تراكمت أمام المبادرة عقبات كأداء لا حلول مرنة لها، على الرغم من تعاظم وتراكم اجتماعات اللجنة الخماسية التي تعد الداعم الرئيسي للمبادرة الفرنسية، فإنه سرعان ما سحب غطاء الدعم وتلاشت الآمال بالمتابعة، واقتصرت متابعات وزير الخارجية الفرنسي السابق إيف لودريان على زيارات بروتوكولية لم تحمل جديداً قابلاً للحياة أو البناء عليها، ما أتاح لسياق آخر ترأسه أحد أعمدة اللجنة الخماسية المتمثل في المبادرة القطرية على قاعدة الخيار الثالث بعيداً عن الاصطفاف السياسي الذي لم ينتج انتخاباً بعد ثلاث عشرة تجربة، وهو سياق بدا خجولاً باعتباره قدم مشروعاً تبناه البعض حَرَجاً ورفضه البعض الآخر جهراً.

وفي ظل تداعي بنيان المقترحات والمشاريع غير الناضجة أساساً، تجمعت معطيات إقليمية حذفت لبنان من قائمة لم يكن لبنان أساساً في أولوية اهتماماتها، ووضعته جانباً في انتظار متغيرات تجري على أرضه، لكنه ليس مقرراً وفاعلاً فيها، لكنها في المقابل ستؤثر مباشرة في الكثير من مفاصل أزماته وطرق الولوج للحل عبرها، ما يعني أن النزوح الرئاسي هذه المرة سيطول كثيراً، ونهاياته مرتبطة بنتائج مسارات ووقائع لا أحد يمتلك مفاتيح معرفتها أو التأثير حتى في بعضها، وهنا تكمن خطورة توصيف هذا الواقع المؤلم الذي لا خروج آمناً منه.

والأغرب في استحقاق الانتخاب الرئاسي تنقله ونزوحه من محطة إلى أخرى من دون ضوابط أو محددات منطقية، إنما يغلب عليها انزلاقات متسارعة تراكم المخاطر التي تتركها تداعيات تلك الانزلاقات القاتلة، فمعها تترك فراغات في الكثير من المؤسسات الحيوية والمرافق العامة، وتجعل طبيعة ما تبقى من مظاهر الدولة ركاماً قاتلاً لا فكاك منه إلا عبر انتخابات رئاسية تبدو بعيدة المنال حتى الآن.

في الماضي القريب وعلى الرغم من صعوبة المعطيات الانتخابية المتوفرة، شكلت هي ذاتها مدخلاً للبقاء ضمن إطار ولو غير منضبط يمكن أن يؤدي إلى مخرج ما، أما ما تراكم اليوم من أحداث ومعطيات ستشكل ضغوطاً قاسية، ستباعد بين ظرف الاستحقاق الانتخابي وما يحيط به من عوامل ذاتية وموضوعية، وستعطي أولوية واضحة ومؤثرة للظروف الموضوعية التي ستكون لها كلمة الفصل في هذا المجال، إذا ظل موضوع الرئاسة قائماً أو ذات ضرورة ما لحدوثه أو أقله تهيئة الأجواء لإنجازه.

هي أيام معدودة وسيكمل لبنان عامه الأول في فراغ رئاسي قاتل تعوّد اللبنانيون على تقبله والعيش في ظله، باعتباره ليس سابقة، فسبق أن مر لبنان بتجارب مماثلة، بعد ولاية الرئيس أمين الجميل والرئيس إميل لحود والرئيس ميشال سليمان والرئيس ميشال عون، واليوم تتهيأ الظروف المحلية والإقليمية والدولية لنزوح رئاسي لبناني يتخوف البعض أن لا يجري بالمطلق، لما يتهيأ للمنطقة من متغيرات في الجغرافيا السياسية والاجتماعية، بعد حفلات الترانسفير واللعب بديموغرافيا جماعات أخذت عقوداً من الزمن لتأمين بعض الاستقرار في الاجتماع السياسي لتلك الطوائف والجماعات المتفلتة القيود والأنماط أصلاً.

فهل سيشكل النزوح الرئاسي القادم مزيداً من التفلت والانحلال السياسي والمجتمعي؟ سؤال ليس سهلاً الإجابة عنه في ظل هذه الظروف والمعطيات المتفلتة؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/9udtns64

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"