النزوح والسلوك الاجتماعي اللبناني

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. خليل حسين

في علم الاجتماع السياسي المحقق في بناء المجتمعات وإعادة التكوين في النظم السياسية، ثمة ثوابت باتت جزءاً من سياقات من الصعب إهمالها أو تجاوز آثارها في السلوك المجتمعي. ومن اللافت في هذا الإطار، أن ظاهرة النزوح واللجوء باتت أمراً يؤرق صانعي سياسات الدول، كما أصحاب العلاقات والاختصاص على المستويات الإقليمية والدولية، وهي قضية باتت أولوية متقدمة لمواجهة تداعياتها المقلقة.

والأمر الأكثر خطورة والأشد أثراً، يكمن في الدول والمجتمعات المتعددة التي تعاني في الأساس خللاً بالتركيبة السكانية أو التوزيع الديموغرافي داخلها، وهو أمر يشكل خطراً داهماً ومحققاً في إعادة التركيب السكاني، كما السلوك النفسي المجتمعي المتصل بالعادات والسلوكيات والأعراف التي تبدو غريبة في أحيان كثيرة.

وإذا كان الأمر يبدو بهذا الشكل من التعقيدات اللامتناهية، فإن الأمر يبدو أشد خطراً في بعض الدول والمجتمعات، ومنها لبنان على سبيل المثال لا الحصر، حيث تتعدد وتتنوع المسببات عبر الكم الهائل من التقاليد والعادات والأعراف الوافدة على مجتمع يعاني في الأساس، أشد أنواع الحساسية، أيَّ مظهر اجتماعي أو سلوك يتخذ طابعاً محدداً مغايراً للشائع أو أقله المتعارف عليه.

ثمة مظاهر دخلت الحياة الاجتماعية اللبنانية، عبر عقود خلت، بعضها بات جزءاً من سلوكيات اعتاد المجتمع اللبناني عليها ولو عنوة، وبعضها الآخر ثمة صراع دفين لا يعرف معظم متلقيه كيفية مواجهته أو أقله الحد من تداعياته وتغلغله في السلوك المجتمعي غير القادر أو القابل على هضمه بسهولة، أو التعايش معه ولو مؤقتاً وفي ظروف يعتبرها ستتغير يوماً ما، ليعاود العيش وفقاً لرؤاه وما اعتاد عليه.

ثمة مؤثرات إضافية دخلت في طور التغيير الحاصل، وهو الوضع الاقتصادي الصعب جداً، والذي بلغ مستويات غير مسبوقة، ما أخذ السلوك الاجتماعي في التعاطي مع المؤثرات إلى أماكن يمكن وصفها بالعنصرية والكراهية، وصولاً إلى مستويات الصدامات المباشرة، مع استعمال طرق ووسائل غريبة على المجتمع اللبناني لم تظهر في سلوكه إبان أشد النزاعات الداخلية والأكثر دموية، ذلك يدل على مستوى تأثير الوافدين الجدد في الحياة الاجتماعية بعد الاقتصادية والعملية وغيرها. فمثلاً ثمة شيوع لافت لحالات القتل والسلب الذي يمارس بصور وحشية كالذبح والتعذيب عبر عصابات محترفة ومنظمة منتشرة في غير مكان، وتمارس نشاطاتها بشكل مرعب وسط عدم قدرة فعلية على التصدي لها ومواجهتها. وفي لبنان الذي شهد موجات نزوح ولجوء متعددة ومتكررة وبخلفيات وأبعاد متنوعة، باتت هذه الظاهرة تشكل مفردة سياسة ذات مخاوف أمنية وعسكرية، ومخاطر وجودية على الكيان اللبناني نفسه، حيث بات النازحون واللاجئون يشكلون أكثر من نصف المواطنين، ويشكلون أيضاً مؤثراً اجتماعياً وسلوكياً خطيراً على بنية السلوك المجتمعي المخترق بعادات بعيدة عنه.

حالياً ثمة موجات نزوح غير مسبوقة تصل إلى الآلاف يومياً، وسط عجز تام على مواجهتها أو التخفيف منها، ووصلت إلى حد الاستسلام وترك الأمور على عواهنها، سيما أن ثمة سلوكاً سياسياً دولياً يشجع هذا النزوح، وعمل في السر والعلن على إبقائهم وتوطينهم حيث هم. واللافت في هذا الموضوع أنه ليس جديداً، وإنما تم العمل عليه وطرحه في العديد من محطات الأزمة اللبنانية، وكان أيضاً سبباً رئيسياً في إشعال الأزمات وتفجير التصارع المجتمعي.

في لبنان باتت الظروف الاجتماعية مهيأة فعلياً وعملياً لشتى مظاهر التغير السلوكي، ذلك بفعل هشاشة الواقع الاجتماعي وضمور عوامل التصدي والمواجهة، علاوة على تحلل مؤسسات الدولة، وتلاشي الضوابط المجتمعية، في ظل مراكمة هائلة لمؤثرات النازحين واللاجئين الذين باتوا يمتلكون القدرات لمواصلة تثبيت دعائم الوجود والتمدد الجغرافي والديموغرافي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/996tdf8x

عن الكاتب

دكتوراه دولة في القانون الدولي .. رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية واستاذ القانون الدولي والدبلوماسي فيها .. له أكثر من 40 مؤلفاً ومئات المقالات والدراسات البحثية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"