إعادة الاعتبار للتصنيع في عالمنا العربي

21:24 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *

أعطى الاقتصاديون الصناعة دوراً أساسياً في تنمية الدول، لدرجة أن مصطلح «الدولة الصناعية» اقترن بمصطلح «الدولة المتقدمة». فالصناعة هي النشاط الأساسي في اقتصاد أي بلد. فهي المسؤولة عن معالجة وتحويل الموارد الطبيعية (المواد الخام) إلى منتجات أخرى تامة الصنع أو شبه مصنعة. النمو والتوسع التدريجي للصناعة وتفرعها وتشعبها، هو الذي أدى إلى إنشاء وتوسع القطاعات والأنشطة الأخرى التي غدت اليوم أحد المعالم البارزة للمجتمعات المعاصرة، مثل الصناعات الفضائية وإنترنت الأشياء، وصناعة أشباه الموصلات، واقتصاديات الذكاء الاصطناعي، وطفرات الصناعات الغذائية والدوائية، وغيرها.

التصنيع يعني خلق آفاق أوسع لقطاعات رديفة أخرى، مثل الطاقة، وتأمين توظيفات مستدامة وأكثر جدوى للموارد الطبيعة والخامات المنتَجة محلياً، وتعبئة أكبر وأكثر تخصصية للموارد البشرية، وتحفيز رأس المال المحلي على الانخراط في مختلف الأنشطة التي تخلقها دورة التصنيع المتواترة عمودياً وأفقياً، وتخلق فرصاً لقطاع التصدير لمختلف أسواق الشركاء التجاريين عبر العالم. فالتصنيع، بهذا المعنى، يساهم في تطوير العديد من القطاعات الاستراتيجية مثل الطاقة والنقل والبناء والصناعات البتروكيماوية التحويلية والصناعات الدفاعية وغيرها. كما يساهم بشكل كبير في تعزيز استدامة تدفقات الإيرادات الحكومية نتيجة لزيادة حصيلة الجبايات الضريبية، التي يتم بعد ذلك استخدامها لتطوير البنية التحتية والخدمات العمومية.

ومن نافلة القول الاقتصادي، أن النمو الاقتصادي الناتج عن حركة التصنيع، يؤدي إلى زيادة أجور العاملين، وبالتالي تحسين مستويات معيشة مختلف الشرائح الاجتماعية، أي تعظيم دالة الاستهلاك في مؤشر قياس إجمالي الناتج المحلي. وإذا كان التصنيع قد بدأ في نصف الكرة الشمالي من الكرة الأرضية، وتحديداً في أوروبا الغربية ثم الولايات المتحدة الأمريكية، فقد انتقل منذ ثمانينات القرن الماضي إلى النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، لاسيما في بلدان القارة الآسيوية، التي تحول كثير منها، لاسيما الصين وكوريا الجنوبية، إلى مضخات تصنيع عالمية تزود أسواق العالم بمختلف أنواع السلع الرأسمالية والاستهلاكية، المعمرة وغير المعمرة. أخيراً، وليس آخراً، فإن التصنيع يوفر مساحة أكبر لتدعيم الاستقلال الاقتصادي، من خلال تمكين الدولة في الظروف والمتغيرات الطارئة من اعتماد سياسة إحلال الواردات (Import substitution)، بما يوفر النقد الأجنبي ويدعم سعر صرف العملة الوطنية.

يعود الفضل في النمو التصاعدي لإجمالي الناتج المحلي، وارتفاع مستويات المعيشة وتحسن مستوى الحياة ورفاهيتها، في معظم القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى الصناعات الأساسية (Basic industries)، والصناعات التحويلية (Manufacturing industries). وطوال هذه الفترة كانت المجتمعات تنتقل بسرعة، بفضل الصناعة، من مرحلة إلى أخرى نوعية، من مجتمع الكهرباء إلى مجتمع القطارات، ثم مجتمع السيارات، ثم الطائرات.

لذا يكون التصنيع أساس الاقتصاد الثري. وقد كان الاقتصادي الأمريكي سيمور ميلمان (1917-2004)، أستاذ الهندسة الصناعية وأبحاث العمليات في كلية فو للهندسة والعلوم التطبيقية في جامعة كولومبيا منذ 1948 – يعتبر الإنتاج مركز الاقتصاد، على عكس النهج الذي بدأ يشق طريقه آنذاك في الدوائر الأكاديمية الأمريكية، والذي يعتبر التبادل، أساس الاقتصاد.

الآن سوف يتحول التصنيع – أو هكذا يُفترض - إلى أولوية عربية بعد أن أصبحت 3 دول عربية مركزية، هي السعودية والإمارات ومصر، أعضاء في تكتل «بريكس»، التي بدأت تعتمد العملات الوطنية في التجارة البينية بين أعضائها، وأثبتت تجربتها أن أهم عنصر في هذه التبادلات، هو توفر السلع المصنعة القابلة للتبادل التجاري بين بلدان الكتلة التي توسعت وأصبحت تضم اليوم 11 دولة بعد أن كانت تضم 5 دول فقط، تضطلع بنصف سكان العالم، وتضم 6 دول من أكبر 10 دول منتجة للنفط، و5 دول من أكبر 10 دول حائزة احتياطيات الغاز في العالم، وتضطلع بحصة تبلغ 37% من إجمالي الناتج العالمي. فهذه فرصة لا تعوض للبلدان العربية كافة، لاسيما منها الدول العربية الأخرى المرشحة للعضوية في السنوات الثلاث أو الأربع المقبلة، للتحرك سريعاً لإعادة الاعتبار للتصنيع كي تتأهل للالتحاق بصفوف تكتلات عالم الجنوب الصاعدة، لاسيما منظمة «بريكس بلس»، ومنظمة شنغهاي للتعاون، التي ستكون علاقات بلدانها الاقتصادية مبنية على التجارة البينية للسلع المصنعة ونصف المصنعة، واعتماد العملات الوطنية في تجارتها البينية، بما يتطلب توفير أسباب تعزيز قيمة عملاتها الوطنية بتأمين إيجابية موازين مدفوعاتها. وهو أمر يؤمنه التصنيع السلعي. صحيح أن هذا الاتجاه التصحيحي لتركيبة مكونات إجمالي الناتج، بما هو إعادة الاعتبار للتصنيع، لا يوافق اتجاهات «لندن سيتي» و«وول ستريت» المائلة لترجيح كفة الاقتصاد الورقي على الاقتصاد الإنتاجي، لكن هذه هي الموجة القادمة في الاقتصاد العالمي، موجة التصنيع القائم على مخرجات الثورة الصناعية الرابعة. بهذا الصدد، حبذا لو تحركت الصناديق السيادية الخليجية بسرعة لحيازة حصص في شركات التكنولوجيا، لاسيما شركات إنتاج أشباه الموصلات والشركات الناشئة الصغيرة المتخصصة في مجالات إنترنيت الأشياء والذكاء الاصطناعي.

* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2ut7nst6

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"