عادي
النفط والغاز والمعادن تجدد صراعاً بدأ عام 1777

غويانا.. شرارة الحرب في أمريكا اللاتينية

23:48 مساء
قراءة 8 دقائق
الرئيس الغواياني محمد عرفان علي.. ونظيره الفنزويلي نيكولاس مادورو
جورج تاون عاصمة غوايانا
الحدود الجغرافية لغوايانا
القوات الأمريكية تنقل خبراتها لنظيرتها في غوايانا
مشاورات عسكرية دائمة بين الولايات المتحد ة وغوايانا

د. أيمن سمير

رغم اتفاق الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو مع محمد عرفان نظيره الغوياني على عدم استخدام القوة في الخلاف الحدودي بين البلدين إلا أن استعداد الطرفين للحرب على قدم وساق، وليس هذا فقط، فكل طرف بدأ يستنجد بالداعمين الاقليميين والدوليين حيث تدعم روسيا والدول ذات النظم الاشتراكية، والاجتماعية الاشتراكية في أمريكا اللاتينية فنزويلا، بينما تتلقى غوايانا دعماً كاملاً وغير مشروط من الولايات المتحدة والدول الغربية خاصة بريطانيا، التي أرسلت سفناً عسكرية إلى غوايانا، وفي الوقت الحالي تسيطر على مواقف الطرفين «الحسابات الصفرية»، فالجميع في تلك المنطقة من العالم ينطلقون من خلفيات تاريخية ومشاكل قديمة لإثبات أحقيته في الأراضي المتنازع عليها، فكل طرف يريد السيطرة بالكامل وبنسبة 100 % على الأراضي المتنازع عليها، لكن الأخطر هو أن الصراع بين فنزويلا وغوايانا على منطقة «إيسيكويبو» الغنية بالنفط ليس صراعاً ثنائياً وينظر إليه في أمريكا اللاتينية على أنه «حلقة في الصراع العالمي» بين الولايات المتحدة وحلفائها الذين يحمون جمهورية غوايانا عسكرياً من جانب، وبين فنزويلا التي تدعمها بشكل رئيسي الصين وروسيا من جانب آخر، وتقوم الرؤية الأمريكية على أنّ تجدد الصراع بين غوايانا وفنزويلا ليس عابراً أو عفوياً، وأن موسكو وبكين لهما مصلحة حقيقية في نشوب «حرب ثالثة» في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة بالتزامن مع الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ومن شأن تلك الحرب الثالثة أن تزيد من انشغال وتشتت واشنطن والعواصم الغربية بعيداً عن الحرب الروسية الأوكرانية ومنطقة الإندو - باسيفك قرب الصين.

فما هي جذور الصراع بين فنزويلا وغويانا؟ وهل فنزويلا مستعدة لدخول حرب في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها؟ وهل الولايات المتحدة وحلفاؤها فعلاً قادرون على التعامل مع جبهة حرب ثالثة؟ التفاصيل فيما يلي:

نمر اقتصادي في أمريكا اللاتينية

توصف غويانا بأنها «النمر الاقتصادي» القادم في أمريكا اللاتينية، لأن غويانا التي تزيد مساحتها على 214 ألف كلم ويسكنها نحو 900 ألف نسمة فقط، تستعد لتكون أغنى دولة في أمريكا الجنوبية بفضل الاكتشافات النفطية المذهلة وكميات الذهب والمعادن، وهو ما جعل الشركات العظمى في مجال استخراج النفط والمعادن تبحث عن موطئ قدم لها في غويانا التي تقع في شمال شرق أمريكا اللاتينية، وتطل على المحيط الأطلنطي لكنها تجاور دولاً كبيرة مثل البرازيل وفنزويلا، ليس هذا فقط، فغوايانا هي الدولة الوحيدة بين 12 دولة في أمريكا اللاتينية التي تتحدث الإنجليزية؛ حيث تتحدث البرازيل البرتغالية بينما باقي الدول تتحدث الإسبانية، ورغم أن عدد المسلمين أقلية في غويانا إلا أن التسامح الديني فيها نموذج في أمريكا اللاتينية، لذلك انتخب شعبها محمد عرفان علي رئيساً للجمهورية رغم أنه ينتمي للأقلية المسلمة حيث يشكل الذين من أصول هندية أكثر من 45 %، ونتيجة لهذا أصبحت غويانا أعلى دولة في النمو القومي عالمياً منذ عام 2018 عندما بدأت تجني ثمار الاكتشافات النفطية الهائلة التي اكتشفتها شركات أمريكية عملاقة بداية من عام 2013، وبات مواطني غويانا الأعلى في العالم من حيث نصيب الفرد من الاحتياطيات النفطية، حيث تقدر الاحتياطيات المؤكدة نحو 10 مليارات برميل من النفط ويمكن أن تزيد خلال العقد القادم إلى 20 مليار برميل نفط لو تواصلت الاستكشافات، لكن هذه الاكتشافات الجديدة بقدر ما هي نعمة، وبدأت تنقل غويانا من دائرة الدول الفقيرة في أمريكا اللاتينية إلى قائمة الدول متوسطة الدخل تمهيداً لتصبح من الدول الغنية قبل 2030 إلا أن النفط تحول لاحقاً إلى نقمة في غويانا؛ حيث ترى جارتها الكبرى فنزويلا التي يزيد عدد سكانها على 30 مليون نسمة أن هذا النفط يقع في مناطق يجب أن تستردها فنزويلا، وتطالب فنزويلا باستعادة نحو ثلثي الأراضي من غويانا التي تضم غالبية الحقول النفطية الجديدة.

لماذا الصراع؟

بدأ الصراع عام 1777 عندما تخلت هولندا عن منطقة غويانا إلى بريطانيا، والتي أصبح يطلق عليها «غويانا البريطانية»، وكانت غالبية منطقة «ايسيكويبو» المتنازع عليها اليوم بين غويانا وفنزويلا تقع ضمن الإدارة الإسبانية لفنزويلا، وعندما استقلت فنزويلا عام 1830 ودخولها بعد ذلك في حرب أهلية لم تلتفت كثيراً إلى استعادة «إيسيكويبو» من بريطانيا التي سعت عن طريق المغامرين والباحثين عن الذهب والمعادن إلى توسيع مساحة «إيسيكويبو» على حساب الأراضي الفنزويلية حسب رواية كاراكاس، وبعد نهاية الحرب الأهلية الفنزولية بدأت كاراكاس تطالب بريطانيا بحقوقها في «إيسيكويبو» التي يسكنها اليوم نحو 125 ألف نسمة وتشكل نحو 65 % من إجمالي أراضي غويانا، وأدى التوتر بين بريطانيا العظمى وفنزويلا إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين لندن وكاراكاس عام 1887، وكانت كاراكاس تؤكد دائماً أن نهر إيسيكويبو الواقع شرق المنطقة هو الحدود الطبيعية مع غويانا، لكن عام 1899 تم تشكيل لجنة لرسم الحدود بين غويانا وفنزويلا تتكون من بريطانيين وأمريكيين وروسي، وأعطت هذه اللجة فنزويلا نحو 10 % فقط من مطالبها، بينما منحت غويانا 90 % من الأراضي المتنازع عليها، لكن كاراكاس قالت إن اللجنة التي رسمت الحدود تواطأت مع بريطانيا التي كانت وقتها إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ومنذ تلك الفترة عادت المطالب الفنزولية باستعادة غويانا، لكن قوة بريطانيا والمشاكل التي كانت تعانيها فنزويلا على الدوام منعت اتخاذ أي خطوة طوال أكثر من 100 عاماً، وبعد استقلال غويانا عن بريطانيا عام 1966 جرت أكثر المحاولات لحل الخلاف التاريخي حول «إيسيكويبو» عندما اتفقت بريطانيا وفنزويلا وحكومة غويانا على إيجاد حل سلمي بمساعدة الأمم المتحدة، وذهب الجميع إلى ما يعرف «بمحكمة جنيف» التي منحت الإقليم المتنازع عليه الى غويانا، ولهذا قامت جورج تاون عام 1970 بإدراج الإقليم في خرائطها الرسمية، كما أصبح الإقليم المتنازع عليه جزءاً رئيسياً من أراضيها وفق دستور عام 1980، ورغم شعبوية الرئيس الفنزويلي السابق هوجو شافيز إلا أنه سعى لطي صفحة الخلاف مع غويانا عندما قال عام 2004 إن «إيسيكويبو لم تعد تشكل مشكلة بالنسبة لفنزويلا»، وذلك خلال زيارة قام بها إلى جورج تاون عاصمة غيانا.

نكء الجراح القديمة

عندما بدأت ثمار الغاز والنفط والمعادن تظهر في مؤشرات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عن غويانا بدأت فنزويلا من جديد تفكر فما وصفه الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو «بأنه حان الوقت لاستعادة ما هو لنا في إيسيكويبو وأن شمس فنزويلا تشرق من إيسيكويبو»، خاصة أن الشركات التي استخرجت النفط في مياه غويانا في الكاريبي كانت شركات أمريكية، وهي اكتشافات وصفها البعض بأنها الأكبر في أي مكان بالعالم خلال العشر سنوات الماضية، وهناك توقعات أنه بنهاية 2024 سوف تستطيع غويانا استخراج نحو مليون برميل يوميا، وهو ما يقول أن غويانا باتت من بين 100 دولة منتجة للنفط، وهي الآن في المرتبة 25 بالفعل

وفي محاولة للتصعيد قامت فنزويلا بعدد من الخطوات منها إجراء مناورات عسكرية ضخمة بالقرب من الحدود مع «إيسيكويبو»، وتعبئة الرأي العام الفنزويلي لاستعادة هذه المنطقة الشاسعة، وآخرها تنظيم استفتاء في 3 ديسمبر الماضي شارك فيه نحو 10.7 مليون ناخب من أصل 20 مليون يحق لهم التصويت حيث طالب الشعب الفنزويلي بنسبة تزيد على 90 % بضرورة استعادة «إيسيكويبو»، وأن يصبح سكانها سكاناً فنزويليين، وحاولت غويانا وقف الاستفتاء عبر محكمة العدل الدولية في لاهاي لكن المحكمة رفضت ذلك، لكنها طلبت من فنزويلا عدم القيام بخطوات أحادية.

وتقول الولايات المتحدة إن الاستفتاء والمطالب الفنزويلية في هذا التوقيت لها مبررات أخرى في مقدمتها سعي الرئيس الفنزويلي لتخفيف العقوبات الأمريكية عليه وهو في العام الانتخابي 2024، وإنه يسعى لمقايضة الموقف من قضية «إيسيكويبو» باعتراف الولايات المتحدة بشرعية حكومته التي سوف تخرج عقب الانتخابات القادمة التي تقول كل التوقعات إن مادورو سوف يفوز بها، وفي أفضل الأحوال تقول الحسابات الأمريكية إن فنزويلا قد ترغب في تقاسم بعض المكاسب النفطية عبر إعادة التعامل الأمريكي مع شركات النفط الفنزويلية العملاقة، وتستبعد واشنطن أن تتنازل غويانا عن كلم واحد من «إيسيكويبو».

حروب بالوكالة

رغم أن المشاركة الأمريكية في حل الصراع التاريخي بين فنزويلا وغوايانا تشكل الحضور الأمريكي الأول على الساحة الدولية، وخاصة في أمريكا اللاتينية اعتماداً على إعلان «مبدأ مونرو» الذي أعلنه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو في 2 ديسمبر 1823 ويمنع القوي الأوربية من التدخل في شأن دول أمريكا اللاتينية، لكن الحسابات الأمريكية الحالية تقوم على عدد من المسارات أبرزها حماية مصالح شركات النفط الأمريكية التي تستخرج النفط في خليج الكاريبي ومياه غويانا، وهي كميات تشتريها واشنطن من الشركات الأمريكية العاملة في غويانا، كما تقوم واشنطن بتسليح غويانا وتجري معها مناورات عسكرية بشكل منتظم، وهناك اتهامات فنزويلية بأن واشنطن تسعى لبناء سلسلة من القواعد العسكرية في غويانا وأن تلك القواعد مع القاعدة العسكرية الأمريكية في كولومبيا تشكل خطراً على نظام الرئيس مادورو الموالي لروسيا والصين وتمثل قرباً من دول مثل إيران، ويرى البنتاجون أن الحضور العسكري الأمريكي من خلال التدريب والمناورات المشتركة في غاية الأهمية لمنع تكرار «سيناريو أوكرانيا» في أمريكا اللاتينية حيث تشكو غويانا دائماً بأن فنزويلا يمكن أن تغزوها في أي وقت، ولهذا سارعت بريطانيا المستعمر السابق لغوايانا بإرسال سفينة حربية إلى شواطئ غويانا عندما أعلن الرئيس مادورو عن نتائج الاستفتاء الذي طالب باستعادة «إيسيكويبو»؛

في المقابل حصلت فنزويلا على أسلحة من روسيا، وهناك حضور لمنظومات دفاعية روسية على أراضيها، فضلاً عن انتشار بعض عناصر الفاجنر، كما أن التعاون الصيني مع فنزويلا وصل لمرحل تاريخية، وكل ذلك يشكل وصفة جاهزة لحرب جديدة بالوكالة عن القوى الكبرى، وهي حرب تراها واشنطن ورقة جديدة من جانب موسكو وبكين لتشتيت انتباه ودعم واشنطن لأوكرانيا، ومحاولة لتخفيف الضغط الأمريكي المستمر على الصين بشأن تايوان.

ثلاثة سيناريوهات:

في ظل الصراع الطويل منذ عام 1777 ومروره بمراحل متعددة سياسية وقانونية يمكن توقع 3 سيناريوهات رئيسية وهي، «تجميد الصراع»، بمعنى أن يظل السجال كما هو بين غويانا وفنزويلا كما كان منذ 1777 وحتى اليوم دون اتخاذ أي قرار كبير انتظاراً لقرار محكمة العدل الدولية التي لجأت اليها غويانا، وتدور كل التوقعات حول أن المحكمة سوف تحكم لصالح غويانا اعتماداً على قرارات قانونية سابقة سواء لجنة عام 1899 أو لجنة جنيف 1966، بينما السيناريو الثاني يقول إن إقليم «ايسكويبو» يمكن أن يتحول لإقليم محايد أو مستقل بعيداً عن غويانا وفنزويلا، وهذا أمر مستبعد لأن غويانا لا يمكن أن تتنازل عن الإقليم، بينما يدور السيناريو الثالث حول «حرب استنزاف» طويلة، ورغم أن فارق القدرات العسكرية لصالح فنزويلا إلا أن كل التقارير تقول إن الحسابات الأمريكية تقوم على أسوأ سيناريو، وأنها مستعدة لدعم غويانا كما تدعم تايوان وأوكرانيا، لكن هذا السيناريو سوف يكون مكلف لفنزويلا ليس فقط بسبب المشاكل الاقتصادية الكبيرة التي تعانيها كاراكاس بل لأن حليفتها الرئيسية روسيا ما تزال منخرطة في الحرب الأوكرانية.

المؤكد أن فنزويلا وغوايانا يحتاجان للسلام والاستقرار والاستفادة من الموارد الضخمة التي يتمتع به البلدان والشعبان، ويظل الرهان على القوى العاقلة في المنطقة، خاصة البرازيل التي تلعب دوراً محورياً في نزع فتيل تلك الحرب التي يرى البعض أنها حرب مؤجلة منذ نحو 100 عام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/ymp7k7sz

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"