مفتاح شعيب
في وقت تواجه فيه باريس حرباً مفتوحة على نفوذها القديم في إفريقيا، انفجر الوضع فجأة في واحدة من أهم مقاطعاتها في أقاليم «ما وراء البحار»، وهي كاليدونيا الجديدة الواقعة في المحيط الهادئ شرقي أستراليا على بعد 20 ألف كيلومتر من البر الفرنسي. ويبدو أن أحداث العنف، التي شهدتها هذه المقاطعة، ليست هينة وقد تؤسس إلى أزمات صعبة في التاريخ المعاصر للقوة الاستعمارية السابقة.
عندما بدأت أعمال العنف، غير المسبوقة منذ عقود، تعاطت السلطات الفرنسية ببرودة وفوقية، وجرى تصوير مشاهد الحرق والنهب وقطع الطرق على أنها شغب زعران سرعان ما يتم تطويقه، بينما كانت تلك التظاهرات تنضح مواقف سياسية ومطالب اجتماعية ونزعات استقلالية. وحين انتبه الإعلام الفرنسي إلى حجم العنف واستشرف أبعاده، سارع إلى اعتباره تمرداً، لتبدأ سلسلة من التدابير والإجراءات منها إعلان الطوارئ ونشر الجيش، وصولاً إلى زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون الذي قرر الحضور بنفسه لتأكيد السيادة الفرنسية على هذا الأرخبيل البعيد. وبالنسبة إلى باريس، فإن هذه الاضطرابات جاءت في توقيت سياسي قاتل، وتأتي قبل أسبوعين من انتخابات البرلمان الأوروبي التي تهيمن عليها تطلعات اليمين المتطرف إلى احتلال مواقع متقدمة على وقع تقلبات عاصفة لم تعد تقتصر أوروبياً على الحرب الدائرة في أوكرانيا.
تراجع الدور الفرنسي في إفريقيا أحدث هزة عنيفة في باريس، وفتح الباب أمام هواجس قد تحصل في المستقبل القريب. وفي ضوء الاضطرابات الدولية والقلق المتصاعد يتشكل وعي فرنسي خائف من المستقبل ويذهب إلى حد الخشية من فقدان الأقاليم البعيدة بعد خسارة النفوذ في المستعمرات. وكاليدونيا الجديدة، التي ألحقتها فرنسا بسيادتها منذ 1853 واتخذتها منفى نهائياً للمغضوب عليهم خلال العهد الاستعماري ومنهم آلاف المقاومين الجزائريين ممن تم ترحيلهم إلى ذلك المكان النائي بين عامي 1864 و1921، وبات أحفادهم اليوم عشرات الآلاف من نحو 300 ألف نسمة من سكان الأرخبيل الذي مازال أصحابه من عرقية الكاناك يحلمون بالاستقلال، وفشلت عدة استفتاءات في تحقيق هذا الهدف. وانتهت اضطرابات عنيفة في نهاية ثمانينات القرن الماضي بتنظيم استفتاء حول الاستقلال خسره المطالبون بانسحاب فرنسا، وآخر استفتاء جرى قبل ثلاث سنوات وقاطعه السكان الأصليون، لتبقى الأزمة مفتوحة على المجهول حتى انفجرت الاضطرابات الحالية.
منذ 2021 تفاقم الخوف الفرنسي من تمرد كاليدونيا الجديدة ونجاحها يوماً ما في الاستقلال بالاستفتاء الشعبي، وفي نفس العام تم انتخاب الرئيس الحالي للإقليم لويس مابو، وهو من السكان الأصليين ومؤيد للاستقلال، وتجنباً لهذا السيناريو السيئ تم إقرار إصلاح دستوري يهدف إلى توسيع عدد من يُسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات في هذا الإقليم الغني بالنيكل والمزار السياحي الساحر، وأحد عناوين عظمة فرنسا التاريخية ومهم لها من الناحية الجيوسياسية والعسكرية.
وقد تعقدت الأزمة مؤخراً بعد تأجيل الانتخابات المقررة هذا الشهر حتى نهاية العام. وما يجعل لها أبعاداً أكبر، ما يثيره الإعلام الفرنسي من اتهامات لقوى أجنبية مثل الصين وروسيا بتأهيل كوادر استقلالية في كاليدونيا الجديدة، ربما لفتح جبهة جديدة ضد فرنسا من الداخل، بعد أن فقدت نفوذها الخارجي في مستعمرات إفريقية سابقة مثل إفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو ومالي والنيجر.