تأليف:مارينا غارسيس
في ظل التحديات العالمية غير المسبوقة التي نواجهها اليوم، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في المبادئ التي تقوم عليها أنظمتنا السياسية والاجتماعية.
والفلسفة الآن مدعوة لتكون قوة فاعلة في نقد الأنظمة السياسية القائمة التي تكرّس عدم المساواة وتدعم النخب، ولتعزيز قيم العدالة والمساواة، يتطلب ذلك نهجاً جديداً يتجاوز التنظير التقليدي، ويسعى إلى بناء مجتمعات أكثر شمولية وعدلاً وتحرراً من هيمنة الفئات المهيمنة.
يأتي في هذا السياق كتاب «التنوير الراديكالي الجديد: فلسفة لعالم مشترك» للفيلسوفة الإسبانية مارينا غارسيس، ترجمته إلى الإنجليزية جولي ورك، ليقدّم رؤية فلسفية تسعى إلى تحدي المفاهيم التقليدية للتنوير، مع التشديد على أهمية إعادة النظر في دور الفلسفة في عالمنا المعاصر.
تركز غارسيس في الكتاب على الأزمات الكبرى التي يواجهها العالم اليوم، مثل الأزمات البيئية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وتدعو إلى نهج جديد للتفكير، أسمته «التنوير الراديكالي الجديد»، الذي يتجاوز مجرد معرفة الحقائق ليشمل نقد الافتراضات القائمة، وإعادة تصور الفلسفة كممارسة اجتماعية وسياسية تهدف إلى إحداث تغيير فعلي في العالم.
تولي غارسيس اهتماماً خاصاً للجوانب السياسية، حيث تنتقد الأنظمة السياسية التي تعزز عدم المساواة الاجتماعية وتكرّس السلطة في أيدي النخب، وتشير إلى أن الحل لا يكمن فقط في تغيير هذه الأنظمة، بل في إعادة بناء الفكر السياسي نفسه، كما أنها تدعو إلى فلسفة جماعية تشارك فيها كافة الفئات، بدلاً من أن تكون حكراً على النخب أو المؤسسات الرسمية، وتؤكد ضرورة تطوير الفكر السياسي ليشمل قيم التضامن والتعاون، ويتجاوز الفروق الثقافية والسياسية لبناء مجتمع أكثر إنصافاً.
ترى غارسيس أن الفكر السياسي الليبرالي التقليدي، الذي يركز على الحرية الفردية دون النظر إلى تأثيراتها في المجتمع ككل، يحتاج إلى مراجعة جذرية، وتقترح فلسفة جديدة للتحرر تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية وتستند إلى إطار كوكبي، ما بعد استعماري، ونسوي، ما يجعلها قادرة على معالجة المشاكل المعاصرة بشكل شامل.
يبرز الكتاب أيضاً أهمية الفلسفة النقدية التي تعتمد على تحليل التاريخ الفلسفي وتطور الأفكار في الفكر الغربي، مع استخدام النقد الفلسفي والتحليل الاجتماعي لتفكيك السياسات الهوياتية والاستقطاب السياسي السائد.
تعتقد غارسيس أن الفلسفة يجب أن تكون أداة لمكافحة الأصولية والتسلطية والصراعات الاجتماعية، عبر تقديم أدوات قوية للشباب لتنمية خيال نقدي يتجاوز القيود التقليدية.
من خلال هذا النهج، تدعو غارسيس إلى فلسفة جديدة تحرر الفكر من القيود، وتسهم في بناء علاقات إنسانية جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والفهم العميق للمشاكل المشتركة، متجاوزة بذلك الخطابات التسلطية والعقائدية التي تعيق تقدم المجتمعات، وتسعى إلى جعل الفلسفة عملية حية ومتفاعلة، تسهم في تشكيل عالم أكثر شمولية وتنوعاً.
ينقسم الكتاب إلى جزأين رئيسيين؛ في الجزء الأول، «التنوير الراديكالي الجديد»، تناقش الكاتبة موضوعات مثل «حالتنا ما بعد الإنسانية»، و«الراديكالية المستنيرة»، و«الإنسانيات في مرحلة انتقالية»، حيث تطرح رؤية نقدية للأزمات العالمية وتأثيرها في الفلسفة والإنسانية، بينما يركز الجزء الثاني، «فلسفة لعالم مشترك»، على إعادة تعريف الفلسفة من خلال فصول مثل «كيف لا تكون فيلسوفاً»، و«من كون لا نهائي إلى كوكب مستنفد»، و«الفلسفة كانت ذات تاريخ»، و«التخلص من الفلسفة».
يستعرض الكتاب كذلك، موضوعات أخرى مثل «أماكن الفلسفة»، و«توحيد الفكر»، و«الكتابة للتحول»، و«تعلم التفكير»، ويختتم بمناقشة مفاهيم مثل «جامعة بلا استسلام»، و«التحالفات الجديدة»، و«نهاية ‹الرجال العظماء›»، و«الجسد والفكر»، و«من الشك إلى الثقة».
بإيجاز، يحمل هذا الكتاب الصادر حديثاً عن دار «فيرسو» البريطانية، دعوة للتفكير في كيفية استخدام الفلسفة كأداة للتحرر والنقد البناء، من خلال تعزيز الشمولية والتنوع في مواجهة التحديات العالمية. ويمثّل الكتاب محاولة لإعادة الفلسفة إلى جذورها كمنصّة للنقاش الحر والتفكير النقدي، بهدف بناء مستقبل مشترك يعكس تعقيد وتعدد أبعاد العالم المعاصر.