الشارقة: جاكاتي الشيخ
عرف الفن التشكيلي عبر مسيرته الزمنية عدة مدارس فنية، تعتمد كل واحدة منها أسلوباً معيناً للتعبير عن الأفكار البشرية بطريقة جمالية، ومن بين تلك المدارس السريالية التي ظهرت في البداية كحركة ثقافية لتحديث الفن والأدب، من خلال التعبير عن مشاعر الإنسان المختزنة في العقل الباطن بصورة يعوزها المنطق والنظام، وتعني تسميتها «فوق الواقع» وهو المعنى الحرفي لكلمة «Surréalisme» الفرنسية، حيث انطلقت هذه الحركة من فرنسا سنة 1924.
كان من أبرز منظّري السريالية أندريه بريتون، الذي عرَّفها بأنها تلقائية خالصة يمكن من خلالها التعبير عن واقع اشتغال الفكر، إمّا شفوياً أو كتابياً أو بأي طريقة أخرى، وصارت في الفن مدرسة تشكيلية يستخدم فيها الفنانون الأشياء الواقعية لتقديم رسومات تعبر عن أحلامهم، وترتقي بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي، مُركّزين في ذلك على كل ما هو غريب ومتناقض ولا شعوري، بهدف البعد عن الحقيقة وإطلاق الأفكار المكبوتة والتصورات الخيالية، فاعتمدوا على نظريات فرويد رائد التحليل النفسي، خاصة في ما يتعلق بتفسير الأحلام، فكان الفنان السريالي يرسم وكأنه بين النوم واليقظة، فيما يصف النقاد اللوحات السيريالية بأنها تعتمد على التعبير التلقائي بالألوان عن الأفكار اللاشعورية، إيماناً بالقدرة الهائلة للأحلام، وابتعاداً عن مبادئ الرسم التقليدية.
وقد لفتت هذه المدرسة الانتباه في الساحة الفنية العالمية ما بين سنتي 1924 و1929، ما جعلها تشهد ازدهاراً كبيراً لعدة عقود، ليُقبل عليها العديد من كبار الفنانين، مشكِّلين مجموعة من الثائرين على الأنماط الفنية السائدة حينها، حتى كان آخر معارضهم في باريس سنة 1947م، إلا أنها انتشرت بعد ذلك في مناطق مختلفة من العالم.
ومن أبرز رواد هذه المدرسة الفنية الإسباني سلفادور دالي، (1904 – 1989) الذي يعتبر من أعظم فناني القرن العشرين، وعرفت أعماله بغرابة موضوعاتها وتشكيلها، فقد اختلط عنده الجنون بالعبقرية، وماكس آرنست (1891 – 1976)، الذي اشتهر بأسلوب الفروتاج، الحك على جسم خشن، الذي كان يضع فيه ورقة بيضاء على شيء ما ويظللها بقلم الرصاص، لتظهر له أشكال غامضة وغريبة، وأندريه ماسون، (1896 – 1987)، الذي غلب على أسلوبه استخدام الأشكال البشرية والحيوانية، والأساطير، ومشاهد العنف.
فهل لا تزال السريالية موجودة في المشهد الفني بعد قرن من ظهورها؟ وما مدى تأثيرها في الفن التشكيلي الإماراتي؟ هذا ما حاولنا معرفته من خلال هذا الاستطلاع، الذي أجريناه مع مجموعة من الفنانين التشكيليين الإماراتيين.
تطوُّر
يرى د. محمد يوسف رئيس جمعية الإمارات للفنون التشكيلية أن الفنانين الإماراتيين الذين يمكن اعتبارهم سرياليين لا وجود يذكر لهم، هذا إذا أردنا الحديث عن أعمال منفذة بخصائص هذه المدرسة، من حرية في إطلاق عنان الخيال وتشكيل اللامعقول، ويضيف: «رغم أننا قد نجد بعض الأعمال المعتمدة على سعة الخيال، وخاصة في النحت، كما يوجد في بعض أعمالي التي اشتغلت فيها على تشكيل الطبيعة في خامات مختلفة، أو في بعض رسوماتي الموجهة إلى الأطفال، التي تبدو خيالية في الغالب وبعيدة من الواقع بما يناسب قدراتهم الإدراكية والتخيلية، وهو ما يوجد لدى بعض الفنانين الإماراتيين الآخرين أيضاً، إلا أن كل ذلك لا يمكن وصفه بالسريالي، بالمعنى الدقيق للمفهوم الفني، وما تجلّى به في فترات ازدهارها لدى العديد من روادها».
ويرى د. يوسف أن أهم السّمات التي يمكن تحديدها في الفن التشكيلي الإماراتي هي الانتقال من الواقعية إلى التجريدية والدخول في المفاهيمية، وما يرتبط بالحداثة وما بعد الحداثة، فقد عرف الفن في البلد تطوراً كبيرا في هذا الاتجاه، وظهرت العديد من التجارب الإبداعية المميزة والمتنوعة، ولكن لم تشهد من بينها تجارب حقيقية في السريالية، ربما لأن التكوين الفكري الغالب لدى الفنانين المحليين لم تشكل أرضية ملائمة لظهور مثل هذه المدرسة، لما تتطلّبه من استخدام للخيال الكاسر لجميع الحواجز الواقعية، كتلك الأفكار الغريبة التي جسّدتها أعمال العديد من فناني هذه المدرسة في أوروبا وغيرها.
ويعتبر د. يوسف أن السريالية لا تزال موجودة في بعض بلدان العالم الأخرى، وإن لم تكن كما كانت عليه في السابق، حيث يمكن أن نجدها في دول مثل فرنسا وبعض الدول الغربية، إلا أن السريالية الموجودة الآن تختلف عن تلك التي عرفت في حِقب ازدهار المدرسة، إذ تطوّرت السريالية المعاصرة نحو حداثية الألوان التي صار الفنان يتوسَّع في استخدامها لتجسيد رؤاه الفنية، ويوغل في التخييل من خلال تلك الألوان ليرسم ملامح أعماله، ويمكن الاطّلاع على تلك التجارب في المعارض الفنية من حين لآخر، لأن تلك البيئات الثقافية قد تتصالح مع مدرسة فنية غرائبية كالسريالية.
تأثير
وتقترب الفنانة د. نجاة مكّي من رأي يوسف، حيث تقول إن الإمارات لم تعرف السريالية كمدرسة خاصة، فلم يسبق أن ظهر بها فنان متخصص بالسريالية كما رأينا في بقية أنحاء العالم، فالفنان سلفادور دالي – مثلاً – عُرف كإسباني متخصص من أعلام هذه المدرسة، في الوقت الذي ظهر في الإمارات فنانون متخصصون في مدارس أخرى كالواقعية مثلاً، فنحن نعلم أن المدارس الفنية تظهر في البلدان في فترات معينة، إلا أن هذه المدرسة لم تظهر في البلد بصفة مستقلة.
وتلفت إلى أننا إذا ما فرّقنا بين الفن والنمط المدرسي يمكننا القول إن السريالية ظهرت لدى بعض الفنانين الإماراتيين كجزء من مظاهر أعمالهم الفنية المختلفة، دون أن تمَحَّض لها أعمال خاصة، وذلك ما يمكن أن نعتبره تأثيراً لها في الفن الإماراتي، لأن الفنانين صاروا يقدّمون أعمالهم بالأساليب التي يرون أنها مناسبة للتعبير الفني، وهو ما قد يضطرهم أحياناً إلى استخدام عدة مدارس في العمل الواحد، رغم أن بعض المدارس قد تغلب على بعض الأعمال فتعتبر داخلة في إطارها، إلا أن ذلك لم يمنع هؤلاء الفنانين من استدعاء كل التقنيات الفنية الممكنة لإنجاز أعمالهم.
كما ترى د. نجاة مكّي أن السريالية بمعناها القديم لم تعد موجودة في باقي دول العالم، بل دخلت في مدارس جديدة بها حداثة تخلط بين الفانتازيا والماورائيات، وقد انتشرت هذه الحداثة في العالم كلّه، حيث يقدّم فيها الفنانون عوالم إبداعية، قد يرى المتلقي في بعضها كيف يشعر أنه في عالم خيالي لا صلة له بالواقع، ولكن لأهداف فنية معينة طبعاً، كما يظهر في بعض الأفلام.
وتؤكد أن الأنماط الفنية مثل الأنماط في الكتابة، فهي لا تختفي ما دام هناك حراك وفعل لدى المبدعين في المجال، فالإنسان يجدِّد في الفنون كما يجدِّد في العلم، من خلال التراكمات التي تطرَأ عبر الفترات المختلفة، فلذلك تظل الحركات والمدارس موجودة ولكن مع بعض التغيرات التي تفرضها مواكبة التطور البشري في الرؤى، وهذا ما جعل المدارس تختفي بمعناها التقليدي كتيارات منغلقة على نفسها، لتتداخل الأفكار في ما بينها وتنتج أعمالاً متجدّدة، تتجسّد فيها كل الأساليب الفنية الممكن، كما أن من الملاحظ اتجاه الجيل الجديد إلى الاستلهام من السريالية في أعماله التي قد لا تكون بالضرورة فنّاً تشكيلياً، بل قد تكون مجرد فيديوهات يُبالغ في استخدام الخيال فيها، وذلك من خلال بعض التقنيات التحويرية في الأشكال، كتضخيم العناصر والأشخاص وأو تصغيرها.
تهجين
أما الفنانة هدى سيف فتعتبر أن المدرسة السريالية في الإمارات بدأت في الانتشار بشكل جزئي، لأن الفنانين الإماراتيين الذين ابتُعثوا في سنوات الثمانينات إلى الخارج لدراسة الفن، حين عادوا إلى البلد كوّنوا جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، فكانت السريالية جزءاً من أعمالهم ولم تظهر كمدرسة مستقلة، لأنهم أخذوا في الاشتغال على منحى التهجين، فظهرت مدارس مختلفة، ولكن هنالك بعض الأعمال التي ظهرت فيها السريالية بشكل واضح، بمفهومها فوق الواقعي، كأعمال الدكتورة كريمة الشوملي التي تتعامل بشكل مختلف مع العناصر الفنية، فهي فنانة تشكيلية لا تهتم بالشكل بقدر اهتمامها بالمضمون، لأن لديها رسالة واضحة وذات طابع وثيق الصلة بالهوية الوطنية، فأعمالها قريبة من السريالية ولكن جزءاً منها مُهجَّن، فالتهجين هو الطابع العام الذي ينتشر في الفن التشكيلي الإماراتي، فالسريالية لها تأثير كبير في أعمال الفنانين المعاصرين من الجيل الحالي، خاصة أن هذا الجيل لم يقتصر على الاستفادة من تأطير جميعة الإمارات للفنون التشكيلية، بل درس الفنون أكاديمياً في الكليات المتخصصة، فاطّلع بنفسه على المدارس الفنية المختلفة، كما أن سجايا فتيات الشارقة تهتم بصقل مواهب هؤلاء الفنانين الجدد، فكان لكل ذلك دور في تهجين الأعمال الفنية الإماراتية، فالسريالية موجودة في الإمارات ولكنها كخط من خطوط اللوحة الفنية فحسب.
وترى أن السريالية تأخذ في أيامنا منحى آخر يختلف عن ما عهدناه منها، وهو صفة الطباعة، لأننا في عصر التكنولوجيا الذي يختلف عن كل ما سبقه، حيث كان يوجد الإنسان والطبيعة فقط، بما في ذلك العصر الذي ظهرت فيه السريالية، قبل قرن من الزمن، فإذا كانت الأعمال المعاصرة تتناول نفس المواضيع التي تناولها الفنانون السابقون، فإن الإخراج يختلف عن ما كان يحدث، من خلال استخدام ألوان الطباعة، فلم يعد الفنان بحاجة إلى مزج الألوان، وإنما يستخدمها بشكل مباشر للتعبير عن فكرة معينة، وهو ما قد يكون بأسلوب العمل السريالي الذي ينجز فيه الفنان اللوحة وهو في حالة شخص شبه نائم، إلا أنها قد لا تكون سريالية بحتة، بل هي حالة صارت تشمل مختلف الفنون المعاصرة بسبب تدخل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في مختلف الأعمال البشرية.
وتشير هدى سيف إلى أن هناك بعض الفنانين الذي يشتغلون في بداية تجاربهم الفنية على تقليد بعض الأعمال الفنية العالمية، بما فيها السريالية، فيظن البعض أنهم سرياليون، ولكنهم سرعان ما يشُقون طرُقاً مغايرة، ما يثبت أن هذه المدرسة أصبحت نموذجاً للتعلّم ولم تعد وسيلة لإبراز الذات الفنية، وهو ما لا ينفي أهميتها ودورها المعاصر في الفن التشكيلي، إلا أن السائد لدينا في الإمارات هو الواقعية والانطباعية، بينما هنالك رفض تام لوجود السريالية، ولذلك يجب أن تلعب المعارض دوراً تصحيحياً للذائقة الفنية، من خلال خلق مساحة من الحرية للجيل الجديد، تسمح بظهور رواد في هذه المدرسة، مثل ما يوجد في بقية دول العالم، التي لا تزال السريالية جزءاً من مشهدها الفني.
تحوُّل
ويرى الفنان ناصر نصر الله أن السريالية مدرسة مهمة في الفن التشكيلي، فقد أكملت مئة سنة بفضل تميزها وتحقيقها للانتشار الواسع في العالم بما فيه الإمارات، فهي موجودة بشكل أو بآخر في أعمال الفنانين في البلد، سواء في اللوحات أو أنواع الفن الأخرى على اختلافها، لأن أساسها الأحلام، والتداعي الحر الذي يمكّن الفنان من تقديم ما يجول في خياله بالطريقة التي يرى أنها مناسبة للتجسيد الفني، ويقول: «لقد أنجزتُ شخصياً عدة أعمال سريالية، عالجتُ من خلالها بعض القضايا التي أرى أن هذا الأسلوب أكثر ملاءمة لعكسها من سواه، وقد عرضتُ بعضها في آخر معارضي الفنية».
ويضيف نصر الله قائلاً: «من الملاحظ أن الجمهور ينتابه بعض الاستغراب حين يرى اللوحات السريالية، نظراً لغرابة محتواها، وما يمكن أن يكون فيها من عوالم، ولكنه ما إن يفهم هذه اللوحات من خلال شرحها، إلا ويتحول استغرابه إلى إعجاب من قدرة الفنانين على تصوير عوالمهم الداخلية بهذه الطريقة، وهو ما يكون في الكثير من الأحيان تمثيلاً لما يشعر به المشاهد العادي نفسه، ولا يستطيع التعبير عنه، فيقدِّم له الفنان بذلك عملاً جمالياً يجمع العديد من الأفكار المتناقضة التي يمكن أن تجول بخاطره في آن واحد، والتصورات التي يختزنها عقله اللاواعي ويريد التعبير عنها من وقت لآخر». كما يرى نصرالله أنه يمكن ملاحظة استمرار وجود هذه المدرسة في الفن الإماراتي من خلال الجيل الجديد، الذي يبرز فيه بعض الفنانين المشتغلين على هذا الأسلوب الفني، ويجدون فيه ملاذاً للتعبير عن رؤاهم بطريقة جمالية، ما يجعلنا نرى من حين لآخر أعمال مميزة لبعضهم، ولكنها لا تقتصر على الفن التشكيلي، بل تمتد إلى فنون تعبيرية أخرى يستطيع الفنان من خلالها تجسيد أفكاره ورؤاه.