فريزر مايرز*
بالنسبة لبعض النخب في المملكة المتحدة، يمثل الاتحاد الأوروبي كل ما هو جيد ومقدس. ومن الواضح أنه محرك للديناميكية الاقتصادية، وملاذ للاستقرار السياسي ومنارة مشرقة للقيم الليبرالية والديمقراطية. ويقولون إن الخروج منه، بحسب تصويت عام 2016، وضع بريطانيا على مسار الخراب الاقتصادي والاجتماعي.
ورئيس الوزراء الحالي كير ستارمر، على الرغم من قبوله الخروج البريطاني على الورق، يتفق بوضوح مع هذا الإجماع النخبوي. وتبحث حكومته عن إعادة ضبط كبرى للعلاقات بين بلاده والاتحاد الأوروبي. ويرى أن العلاقات التجارية الأعمق مع بروكسل، والتوافق الوثيق مع قواعد الاتحاد الأوروبي، أمرٌ بالغ الأهمية لمعاودة النمو الاقتصادي. بل ينظر أيضاً إلى التعاون الوثيق مع أوروبا بصفته حلاً لأزمة الهجرة في القناة الإنجليزية. وقبل اجتماعه الأخير مع أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، قال ستارمر إنه من المهم أكثر من أي وقت مضى أن نكون «منسجمين» مع بروكسل.
لكن هذه النظرة المتفائلة تجاه الاتحاد الأوروبي تبدو وكأنها وهم محصور في الطبقة الحاكمة في بريطانيا. لأنه حتى المتحمسين لأوروبا يدقون ناقوس الخطر بشأن المشاكل المتزايدة التي يواجهها الاتحاد الأوروبي. وقد حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن الكتلة تواجه تهديداً صارخاً من الانحدار الاقتصادي. وفي الوقت نفسه، يتجه الناخبون الأوروبيون بشكل جماعي نحو الأحزاب الشعبوية المتشككة في أوروبا، وتتعرض تسوية الاتحاد بشأن الهجرة، وصافي الانبعاثات الصفري، والاقتصاد لضغوط لم يسبق لها مثيل. وجاء تسليط الضوء الأكثر وضوحاً وأهمية من ماريو دراجي، أحد كبار التكنوقراط في أوروبا، والمكلف من قبل المفوضية الأوروبية بإعداد خطة لإحياء القدرة التنافسية الأوروبية، والذي اعترف بأنه يعاني «كوابيس» بشأن الآفاق الاقتصادية للاتحاد الأوروبي.
وكما أوضح تقريره النهائي، فإن الاتحاد الأوروبي يعاني مشاكل اقتصادية عميقة منذ بعض الوقت. ففي مطلع القرن العشرين، كان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على قدم المساواة نسبياً. ولكن على أساس نصيب الفرد، لم ينمُ الدخل المتاح الحقيقي في الاتحاد الأوروبي إلا بنصف معدل الولايات المتحدة منذ عام 2000. والآن تتفوق الولايات المتحدة بشكل كبير في التكنولوجيا المتقدمة. ولا يوجد سوى أربع شركات أوروبية من بين أكبر خمسين شركة تكنولوجية في العالم. كما فقد الاتحاد الأوروبي ما يقرب من مليون وظيفة في قطاع التصنيع في السنوات الأربع الماضية وحدها. ويحذر دراجي من أن الاتحاد الأوروبي لم يعد بوسعه أن يتحمل الرضا عن الذات في مواجهة هذه «الكارثة».
في واقع الأمر، أود أن أزعم أن تقييم دراجي القاتم يقلل في واقع الأمر من شأن محنة أوروبا. فإذا نظرنا فقط إلى المتوسطات عبر 27 دولة عضو، فقد نُغفل بعض القصص الاقتصادية المرعبة الحقيقية. فمن المدهش أن اقتصادات إيطاليا وإسبانيا واليونان أصبحت اليوم أصغر حجماً مما كانت عليه في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومنذ ذلك الوقت، تضررت دول جنوب أوروبا بشدة من أزمة اليورو وتدابير التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي، ولم تتعافَ بالشكل المطلوب بعد. وحتى اقتصادات الاتحاد الأوروبي الأكثر ديناميكية تقليدياً بدأت في الركود. أو ما هو أسوأ من ذلك. فألمانيا على سبيل المثال، التي يُنظر إليها عادة بوصفها العجلة الاقتصادية المحركة لأوروبا، تتجه بسرعة نحو إزالة التصنيع. وقد هددت شركة «فولكس فاغن»، جوهرة صناعة السيارات الألمانية، مؤخراً بخفض الوظائف وإغلاق خطوط الإنتاج لأول مرة في تاريخها الممتد ل87 عاماً. وفي الوقت نفسه، تعمل شركات كبرى مثل «باسف» للكيماويات، و«سيمنز» للتكنولوجيا أيضاً على خفض الوظائف أو نقل مصانعها إلى الخارج.
وفي فرنسا، ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، يتصاعد الدين إلى مستويات مماثلة لتلك التي رأيناها في إيطاليا قبل أزمة اليورو مباشرة. ورداً على ذلك، اقترح رئيس الوزراء الفرنسي الجديد ميشيل بارنييه تخفيضات هائلة في الإنفاق العام. ومن المتوقع فعلاً أن تبدأ جولة مؤلمة جديدة من التقشف.
الآن، إذا كان «التغيير الجذري» أو «العذاب البطيء» هما الخياران الوحيدان المتاحان، فإن الأخير هو ما يمكن لأوروبا أن تتوقعه. فقد تم بالفعل إسقاط صندوق الاستثمار المقترح بقيمة 800 مليار يورو من قبل ألمانيا وغيرها من الدول الأعضاء «المقتصدة» في الاتحاد. ومن غير المرجح أن ينتبه البيروقراطيون الذين يديرون العرض في بروكسل إلى تحذيرات دراجي من الإفراط في التنظيم. علاوة على ذلك، فإن الحملة على مستوى الاتحاد الأوروبي نحو صافي الصفر تدفع أسعار الطاقة إلى الارتفاع، وتهدد بنقل المصانع إلى الخارج.
ومع تزايد صراخ معاناة اقتصاد الاتحاد الأوروبي، يبدو أن قلة قليلة في بريطانيا انتبهت لذلك، فحكومة حزب العمال، ووايتهول، وكثير من وسائل الإعلام الرئيسية لا تزال تخبرنا بأن العلاقات الوثيقة مع الاتحاد الأوروبي ستكون نعمة كبيرة للشركات البريطانية.
رغم الواقع الحالي، تُظهر كل العلامات القادمة من الاتحاد الأوروبي لماذا قد يؤدي الالتزام بقواعده وأنظمته وسياساته إلى خنق اقتصاد المملكة المتحدة. فإذا كان مستقبل بريطانيا يعتمد حقاً على الانسجام الوثيق مع الكتلة، مثلما يدعو ستارمر، فهذا ليس المستقبل الذي يجب على أي منا التطلع إليه.
*نائب رئيس تحرير موقع «سبايكد»
https://tinyurl.com/4nryzuap