الجموع وصناعة الحداثة.. قراءة جديدة لدورها وتأثيرها
يتناول كتاب «الجماهير: كيف شكّلت الحشود العالم الحديث» للمؤلف دان هانكوكس فكرة محورية تسعى إلى إعادة النظر في التصورات السلبية الراسخة حول سلوك الجموع وتأثيرها على المجتمعات. يطرح المؤلف تساؤلاً مهماً: هل الجموع مجرد حشود غاضبة تهدد النظام والاستقرار، أم أنها تمثل القوة الخفية التي صنعت معالم العالم الحديث وأسهمت في تطوره؟ يجيب الكتاب عن هذا السؤال من خلال استعراض معمق للتاريخ والأحداث الراهنة، مستنداً إلى رؤية تتحدى الأفكار التقليدية وتعيد صياغة مفهوم الجموع.
يرى هانكوكس أن الجموع ليست ظاهرة فوضوية بحتة كما يروج لها بعض السياسيين والفلاسفة ووسائل الإعلام، بل إنها كانت ولا تزال المحرك الرئيسي للتغيير في العالم؛ فالتاريخ الحديث هو في جوهره تاريخ الجموع، تلك الكتل البشرية التي اجتمعت لتحقيق أهداف مشتركة، سواء كان ذلك في ساحات الاحتجاج، أو في مناسبات الاحتفال، أو حتى في الفعاليات الرياضية والثقافية. يعيد الكتاب رسم صورة الجموع ككيان إيجابي قادر على إحداث التغيير، وتعزيز الديمقراطية، وإثراء الثقافة الجماهيرية، وذلك عبر تحليل معمق لتجارب مختلفة، من مباريات كرة القدم الصاخبة إلى التجمعات الموسيقية الحاشدة، ومن التظاهرات السلمية إلى الثورات الكبرى.
يشير المؤلف إلى أن هذه الصورة الإيجابية للجموع كانت دائماً تحت تهديد التصورات السلبية التي رسختها أفكار غوستاف لوبون، الفيلسوف الفرنسي الذي عاش في القرن التاسع عشر وشهد ثورة كومونة باريس. اعتبر لوبون أن الجموع تمثل خطراً على الحضارة، واصفاً إياها بالهمجية والعدوانية. هذه الأفكار لم تبق حبيسة الكتب، بل وجدت طريقها إلى عقول قادة مثل هتلر وموسوليني، كما أثرت على مجالات حيوية مثل علم النفس الجماعي والصناعة الناشئة للعلاقات العامة. يرى هانكوكس أن هذه النظريات ساهمت في تشكيل الطريقة التي تعاملت بها الدول مع الاحتجاجات والمظاهرات، ما أدى إلى قمع الجموع بدلاً من الاحتفاء بها.
في ظل هذا الإرث التاريخي الذي يثقل كاهل الجموع يطرح الكتاب تساؤلات حول حاضرنا ومستقبلنا. هل يمكن للجموع أن تتجاوز الصور النمطية التي ارتبطت بها كحشود مدمرة ومجنونة؟ كيف يمكن مقارنة الأحداث الحديثة، مثل اقتحام مبنى الكابيتول الأمريكي في السادس من يناير/ كانون الثاني 2020، بالتجمعات الجماهيرية التي شهدتها الحقب النازية؟ وكيف يمكن للتطورات التقنية والمراقبة الشديدة أن تشكل تهديداً جديداً لحرية التجمع والتعبير عن الرأي؟ يحاول المؤلف الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال تحليل موضوعي يأخذ القارئ إلى قلب هذه الأحداث لفهم ديناميكيات الجموع وتفاعلاتها.
يتناول الكتاب، عبر فصوله المختلفة، الأبعاد المتعددة للجموع وتأثيراتها في المجتمع، والسياسة، والثقافة. يبدأ بالتمهيد الذي يستعرض أجواء «كرنفال قادش» في إسبانيا كرمز لتجمع بشري حيوي. ينتقل بعد ذلك إلى المقدمة بعنوان «عصر الجموع»، حيث يُحدد إطاراً عاماً لفهم تطور هذه الظاهرة.
يستعرض الفصل الأول، «باريس تحترق: الجموع الثورية»، الأثر التاريخي للجموع الثائرة مثل كومونة باريس ودورها في تشكيل التحولات السياسية. ويركز الفصل الثاني، «عرض نورمبرغ: الجموع السلطوية»، على استخدام الجموع في تعزيز الأنظمة الشمولية، مشيراً إلى تجمعات الحقبة النازية. أما الفصل الثالث، «البلطجية المتوحشون: احتجاجات الجموع وأعمال الشغب»، فيناقش الجموع التي تنخرط في الاحتجاجات وتلك التي تتحول إلى الشغب، محللاً الأسباب النفسية والاجتماعية خلف هذه الظواهر.
يتناول الفصل الرابع، «لا تأخذني إلى المنزل: جموع كرة القدم»، الجماهير الرياضية وكيفية تشكلها ككيانات تجمع بين الحماس والانتماء. وينظر الفصل الخامس، «العالم مقلوب رأساً على عقب: جموع الكرنفالات»، في الدور الاحتفالي والثقافي للكرنفالات كفضاء يجمع الناس في أجواء تعكس التعايش الجماعي. ويناقش الفصل السادس، «اختراع الحياة الحديثة: جموع المدن»، صعود الجموع الحضرية ودورها في تشكيل الحياة المعاصرة، متناولاً تأثيرها في التخطيط العمراني والثقافة الشعبية. أما الفصل السابع، «الأساطير والأكباش: الجموع المميتة»، فيُركز على الصور النمطية السلبية للجموع التي تُستخدم في الخطاب السياسي والإعلامي لإثارة الخوف. يختم المؤلف كتابه بدعوة إلى فهم أعمق لدور الجموع في تحقيق التغيير، مع إشادة بقدرتها على بناء مستقبل مشترك.