الأمن القومي أمام الخطر الترامبي!

00:10 صباحا
قراءة 4 دقائق

في اللحظة الحرجة الحالية تكاد مصر أن ترفع رأسها من جديد، وتستعيد ذاكرتها التاريخية كدولة لها دور محوري في حسابات محيطها وعالمها.
عندما تغوّل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على كل حق عربي وفلسطيني متوعداً سيناء بالتهجير القسري، أو الطوعي، من غزة إليها تحركت الوطنية المصرية بما يشبه الإجماع استعداداً لقبول التحدي، أياً كانت أثمانه وتكاليفه حتى لو اضطرت إلى دخول الحرب.
سقطت إلى الأبد أوهام أن السلام خيار استراتيجي و«كامب ديفيد» «اتفاقية مقدسة». لوّحت مصر بورقة تعليق تلك الاتفاقية، تعليق لا إلغاء.
دعت ترامب إلى أن يضع في اعتباره «مكتسبات السلام»! كان ذلك تحذيراً من سيناريو الإلغاء، وتنبيهاً في الوقت نفسه لأخطاره على المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الإقليم كله.
لا يعقل أن تخسر مصر سيناء، التي جرت فوقها كل حروب مصر القديمة والحديثة، من دون طلقة رصاص واحدة!
الحرب سوف تكون حتمية، أيا كانت عواقبها. الجيش الإسرائيلي لا يحتمل أية مواجهة عسكرية مع مصر، مهما دعمته واشنطن.
إنه جيش منهك تماماً، روحه المعنوية في الحضيض بأثر خسائره الفادحة في حربي غزة والجنوب اللبناني.
هذه حقيقة ماثلة. لا نحن ضعفاء ولا هم أقوياء. هذه حقيقة أخرى.
انطوت تصريحات ترامب، على عجرفة قوة تستضعف العرب إلى حدود لم تكن متخيلة في أشد الكوابيس السياسية جموحاً.
وجاء وقت رد الاعتبار. ساد الخطاب العربي العام درجة ملحوظة من التعويل على مصر، الدولة التي تمثل بمفردها ثلث الأمة العربية، في لعب دور جوهري لوقف الجموح الترامبي، الذي يزايد على الخطاب اليميني الإسرائيلي المتطرف. إنه استدعاء لدور مصري قيادي تحتاج إليه الأمة العربية الآن تحت ضغط الخطر الترامبي.
لكل دور أصول وقواعد. لا توجد أدوار معلّقة في فراغ الأمنيات.
قيمة جمال عبدالناصر في التاريخ أنه عبّر عن فكرة أن مصر تستطيع أن تكون قوية وتجعل العالم العربي قوياً معها فتتضاعف قوتها، وهذه الفكرة لا تجيء تاريخياً لمصر إلا ربع ساعة كل مائة سنة - بتعبير الكاتب الصحفي الراحل محمود عوض.
التعبير مجازي لكنه يعبّر، بصورة أو أخرى، عن حقيقة لا يمكن تجاهلها أن قوة مصر في عالمها العربي والخروج منه يفضي إلى عزلتها وتقويض ثقتها في نفسها، كما يفضي إلى إضعاف العالم العربي وإهدار أمنه القومي الجماعي.
أُنشئت إسرائيل لأسباب استراتيجية استهدفت عزل مصر عن المشرق العربي. كانت تلك الفكرة المؤسسة ل«وعد بلفور» لا الأساطير الصهيونية عن أرض الميعاد.
بمعنى آخر، وظفت تلك الأساطير لمقتضى المصالح الاستراتيجية في تحجيم الدور المصري وعزله عن محيطه.
عملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد حرب أكتوبر (1973) على فصل مسارات التسوية، واعتماد الحلول الجزئية مع كل دولة على حدة لتفكيك ما يسمى بوحدة الموقف العربي، حتى وصلنا بالتدهور إلى صفاقة الدعوة الترامبية للتطهير العرقي في غزة وتهجير سكانها قسرياً أو طوعياً إلى سيناء بالتزامن مع تهجير آخر من الضفة الغربية إلى الأردن.
معنى التصريح أنه لا يرى أمامه شعباً يستحق الحياة، أو تحترم سيادته على أرضه.
قيل- هنا- إن مصر لن تحارب حتى آخر جندي من أجل فلسطين. كان ذلك تدليساً على الحقيقة، فمصر حاربت من أجل مصر قبل أي شيء آخر.
أسوأ ما يحدث للأمن القومي في أي بلد الاستخفاف بحقائقه، أو استخدامه في غير موضعه نيلاً من أي اختلاف وتنوع في الآراء.
الأمن القومي موضوع توافق واسع له إطار وحدود وقواعد. إذا لم يكن هناك هذا التوافق يفقد البلد بوصلاته التي تحدد مواطن الخطر، فلا نعرف أين نقف؟.. ولا من أين قد تأتى الضربات المباغتة؟
بالتعريف فإن الأمن القومي مسألة تحصين للبلد تمنع الاختراقات في بنيته، وهذه مهمة أجهزة المعلومات والاستخبارات التي أنشئت من أجلها. كما أن نظرياته تصوغ العقيدة القتالية، أين مصادر التهديد؟.. ومن العدو؟
أين دوائر الحركة الرئيسية؟.. وأين الأولويات في إدارة الملفات الخارجية؟ هناك باليقين تحسن إيجابي في لغة الخطاب الدبلوماسي المصري يستحق التحية، لكنه يتطلب المزيد حتى يكتسب كامل صدقيته.
هناك نظرتان متباينتان للأمن القومي وتعريفه، أولاهما، تقصره على مهامه المباشرة من حيث هو أمن.. وثانيتهما، تدخله في الشأن العام وتعتبر الحق في المعرفة لازماً حتى تكتسب الدولة مناعتها أمام أي تحديات ومخاطر.
وفق النظرة الواسعة، فإن عزل الأمن القومي في أطر ضيقة يسحب منه قدرته على تحصين مجتمعه.
لا تحصين بالأمن وحده والحريات العامة قضية أمن قومي، فلا توافق ممكن تحت الترهيب.
أجواء الخوف تضرب في الأمن القومي بذات قدر إنكار الحقائق الأساسية، وأهمها أن دولة الاحتلال العدو الرئيسي.
لعل أفضل تعريف للأمن القومي: «إنه الحرص على حياة سليمة وصحية، حياة مستنيرة ومتعلمة ومتفهمة، إنتاج وفير يمكن لحياة كريمة، وطن قوي له وسائله في ضمان حياة ومستقبله»- حسب الأستاذ «محمد حسنين هيكل».
باتساع النظرة فإن تحسين البيئة العامة من ضرورات حفظ الأمن القومي.
هذه مهمة ثقيلة، لكنها لازمة لاكتساب القدرة على مواجهة التحديات، إذا ما اضطرت مصر لخوض غمار حرب لم تعد مستبعدة على حدودها الشرقية دفاعاً عن سيناء ووجودها نفسه.

https://tinyurl.com/yc5fx68u

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"