الناشر: دار روايات
كان صعود نجم نغوغي وا ثيونغو، في سماء الأدب الكيني والإفريقي ثم العالمي، يمثل لحظة خاصة، فقد منح السرد الروائي والقصصي الإفريقي أبعاداً جديدة، وجعله يتجول في أمكنة لم يتم الاقتراب منها، كانت بمثابة غابة كثيفة مجهولة تحاكي أدغال القارة السمراء، وكسى «الحكاية الإفريقية»، ثوباً جديداً أكثر رونقاً وإشراقاً، عقد مواجهات في اتجاهات عدة، مع المجتمع، وتصفية الاستعمار، وحمل على عاتقه قضية ابتعاث الماضي وما سقط من ذاكرة الشعوب الإفريقية، وبصورة خاصة كينيا تلك البلد التي تحمل في خريطتها كل تفاصيل القارة.
رواية «بتلات الدم»، لنغوغي وا. ثيونغو، الصادرة في نسختها العربية عن دار روايات، في طبعتها الأولى عام 2022، بترجمة: سلمى وعمرو، تعد واحدة من أهم الأعمال السردية الإفريقية، حيث تقدم إضاءات كبيرة وساطعة لواقع كينيا والقارة الإفريقية في المجمل، ويمارس فيها وا. ثيونغو، طريقته الإبداعية الخاصة في تفكيك وتحليل الظواهر واتخاذ موقف نقدي منها محملا بالأفكار والرؤى، حيث تضعنا الرواية في قلب كينيا أجمل بقاع شرق إفريقيا عقب الاستعمار، لكن السرد يستدعى بصورة أساسية حقبة الاحتلال التي ما انفكت تلك الدولة، كباقي بلدان القارة، تعاني منها بشدة، حيث لا تزال آثارها باقية.
*جريمة
تتحدث الرواية في موضوعها المباشر عن جريمة قتل محيرة كان ضحيتها ثلاثة مديرين أفارقة لمصنع مملوك لأجانب، أما في عمقها بعيد الأغوار، فهي تتناول تلك الخيبة الكبيرة التي علقت بالنفوس تجاه كينيا ما بعد الاستقلال، حيث استشرت أمراض المحتل من فساد وقبح وشبح الشمولية وحب السلطة، فالرواية المفعمة بالإثارة والتشويق، تبدو كأنها تتحدث عن قصة بسيطة وحكاية تحقيق بوليسي لتلك الجريمة التي وقعت في إحدى المناطق الكينية النائية، بحيث لا مكان فيها للتعقيد، إلا أن ذلك هو الجانب المخادع، فتطور السرد والأحداث يحمل في جعبته الكثير من الأسرار والغموض، إذ إن القصص المتداخلة للمشتبه بهم في جريمة القتل، تعكس صورة فاجعة لهذه الدولة التي نالت استقلالها حديثا، ما يسرب مشاعر الإحباط واليأس في قلوب أبناء وبنات الشعب الذين شعروا بالخذلان الكبير تجاه أولئك الساسة الذين عقدوا عليهم الآمال والطموحات الكبيرة في الأخذ بيد البلاد إلى آفاق رحبة من العدالة والتطور تنسيهم ليالي الاحتلال المظلمة.
كانت الحكومات التي تلت فترة خروج المستعمر، في معظم أنحاء القارة، مجرد امتداد للهيمنة والاستبداد والرغبة الكبيرة في الانفراد بالسلطات والثروات، لقد أعمى الطمع أبصار هؤلاء القادة الجدد الذين ظنوا أن مقاومتهم للمستعمرين يجب أن يكون ثمنها هو بقاؤهم في السلطة وتمتعهم بخيرات بلادهم الغنية بالثروات، وفي سبيل ذلك ورطوا دولتهم الوليدة في تبعية عمياء لقوى الهيمنة التي كانت تنهب بلادهم، فقد كانوا مجرد وكلاء للمستعمر، ليبدأ فصل جديد من ثنائية الفساد والاستبداد التي ظلت تلازم إفريقيا.
*وجه كينيا
تقدم دار روايات إضاءة كاشفة عن أجواء وفضاءات هذا العمل السردي، من خلال هذا المقطع كتمهيد للرواية جاء فيه: «في وجه قرية تجاهلها المطر والسياسيون، يتراءى وجه كينيا. هذه الأرض التي كانت في الماضي البعيد خصبة ومعطاءة، تقهقرت الآن بفعل الجفاف وتكالب المستعمرين والخونة والجشعين. والآن يجتمع على ترابها المغبرّ أبطال مجهولون، أتى كلٌّ منهم من ماضٍ متجذّر في الفشل والاستغلال والتهميش. ما الذي سيحدث حينما يأخذ هؤلاء الأبطال على عاتقهم مهمة إنقاذ الأرض التي منحتهم الكثير؟».
*طبقة جديدة
تعد هذه الرواية ضمن أعمال وا ثيونغو، السردية الباكرة فقد صدرت في عام 1977، وترصد بعمق شديد، تلك التوترات والأحداث في كينيا في مرحلة ما بعد الاستعمار، فقد جعل الكاتب من قصة التحقيق في جريمة القتل مدخلاً لطرح موقفه وبحثه الدؤوب في التنقيب عن الأسباب الحقيقية وراء تمزق ذلك البلد الذي كان يحمل كل عناصر النجاح، لكن تلك المقومات التي انفردت بها كينيا كانت بمثابة نقمة كبيرة عليها بدلا من أن تكون نعمة، وكان هناك اندفاع محموم من قبل الساسة نحو أحداث أكبر تراكم للثروات وتحديث الدولة، لكن ذلك كان يتم بشكل يتسلل عبره الفساد والإفساد بقوة، حيث استمرت سيطرة الإمبريالية الغريبة على الدولة والمجتمع، وتكونت طبقة من الأثرياء الجدد، وفي ذات الوقت تمددت مساحة الفقر وبرزت قوى اجتماعية تعيش على هامش الحياة حيث البؤس والأوجاع التي لا نهاية لها.
*شخوص
لعل براعة الرواية في التعبير عن تلك العوالم تتمثل في رسم الشخصيات التي عبرت كل واحدة منها عن واقع وحالة اجتماعية نفسية وإنسانية، حيث كان دور هذه الشخوص المحوري في السرد هو الربط بين الواقع الآني وحركة التاريخ والتعبير عن التمزقات الوجدانية في المجتمع الكيني، فهناك «منيرا»، ويعمل مديراً لمدرسة ويعبر عن حالة تشظٍ شديد لأن العادات والقيم القبلية لا تزال تسري في عروقه رغم التعليم والوظيفة المدنية، وذلك ما جعله غريباً ومعزولاً عن المجتمع، فهذا الرجل يمثل شريحة كبيرة في المجتمع الكيني لم تنفك بعد من أسر الماضي، بينما تبرز «وانجا»، كشخصية أكثر محورية وتعقيداً في ذات الوقت، فهي صاحبة سيرة نضالية لكنها ظلت رهينة لذلك الماضي، وتعيش حالة إنكار للواقع، ربما لأنه جدير فعلا بالإنكار، لكن ذلك الأمر حرمها من تصبح ذات مكانة أو أن تفلح في العمل، فقد كانت مهجوسة بخيانة رفاق النضال وتحولاتهم.
أما «كاريغا» فقد كانت رمزاً للاحتجاج والصمود والتمرد فهي نقابية ناضلت ضد الاستعمار في الماضي، وظلت كذلك تقف ضد الفساد السياسي منخرطة في حراك جماهيري اسلمها لحياة السجن والمعتقلات، وتقدم هذه الشخوص، الرئيسية والثانوية، إضاءة عن وضع كينيا ما بعد الاستعمار والحياة الاجتماعية التي سادت فيها، وكيف كان الفشل هو المآل لهؤلاء الذين وقفوا ضد ماكينة الدولة الضخمة التي كانت تلتهم الجميع.
*حنين
تبلغ الرواية ذروتها الإبداعية وعظمتها السردية، في تصوير تلك الفجوة الكبيرة ما بين كينيا قبل الاستعمار وما بعده، فقد أنتج المستعمر واقعاً جديداً وبشراً مختلفين لا ينتمون لإنسان الماضي الأصيل، حيث يأخذنا السرد إلى رحلة في التاريخ الإفريقي والكيني ليبين حالة الحنين المبررة لذلك الماضي الذي انطوت صفحاته للأبد، فهذه القطعة السردية تكشف التشظي وحالة الاغتراب العميقة التي يعاني منها الفرد الكيني، وهو يبتعد رويداً رويداً عن منابعه الصافية التي عكرتها يد المحتل الآثمة، ويصور العمل حالة الشوق الشديد للتقاليد القديمة والأساطير والتاريخ.
*اقتباسات
«كانت هذه الأرض خصبة، رغم أن الأمطار لم تكن تهطل».
«لقد اختار ألا يختار».
«مروا جميعًاً من هنا متجهين إلى مملكة الوفرة، مدفوعين بالعطش الحقيقي للمعرفة».
«إنني أؤمن بحقيقة ما يُسمى به أكثر من إيماني بالاسم نفسه».
«يجب أن نكون مستعدين دائمًا لغرس البذرة في هذه الأيام الأخيرة».
«جميع العلامات: الصراعات، والقتل، والحروب، والدماء -مُنبَّأ بها».
«لطالما كان الشعب الكيني مستعدًا لمقاومة السيطرة والاستغلال الأجنبيين».
«كانت لديهم أرواح شيطانية تدفعهم للمطالبة بأجور أعلى وإثارة المشاكل، فيُفصلون من العمل!».
عادي
صدر في الشارقة
«بتلات الدم».. الرواية تحيي ما سقط من الذاكرة
12 مارس 2025
16:59 مساء
قراءة
5
دقائق
قد يعجبك ايضا







