جاء في كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة، أن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت: مر علينا عام الرمادة في عهد الخليفة الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه، جاع فيه الناس، وفي بيتي تُميرات قليلة، فركنت إلى قيلولة وقتَ الهجير، وبينما أنا نائمة استفقتُ على صوت جلبة عظيمة تعالت فيها أصوات الناس ونظرتُ إلى السماء فلمحتها حمراء، وقد زاد الهَرَج والمَرَج، فقلتُ لجويرية عندي: اذهبي وانظري لي ما يجري واستعجليني الخبر. وبعد برهة عادت الجارية تخبرني بأن قافلة لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وقوامها سبعمئة بعير عادت من الشام محملة بالسمن والبر والزيت والزبيب والخل والكساء وبضائع أخرى كثيرة، فقلت: ولمَ هذه الجلبة؟ قالت يتفاوض التجار على شرائها فيدفعون في البضاعة الضعفين والثلاثة وعبد الرحمن بن عوف لا يبيع، فقلتُ: والله لئن صدفته لأقرِّعَنَّه على فعلته، لقد فسد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بعد محمد.
وبعد ساعة زمانية طُرِقَ بابي، فقالت الجارية إن عبد الرحمن بن عوف بالباب ويريدك، فقلت: لقد ساقه الله إليَّ وجاءني برجليه، فوالله لأقرِّعَنَّه. فتحاملتُ على نفسي وقرِبت الباب وعليه حجاب، وقلت: نعم يا ابن عوف؟ فقال: أتذكرين يا ابنة الصديق حديث رسول الله عني حين قال: ندخل الجنة ويتخلف عنا عبد الرحمن بن عوف - يُحاسَبُ على ماله - ثم يدخلها حبوًا، عسى الله أن يطلق ساقيه؟ قلت: نعم أذكره، قال: إن هؤلاء القوم يدفعون لي في البضاعة خمسة أضعاف وأنا لا أبيع، فهممتُ أن أقاطعه لأعاتبه وأدعوه إلى الشفقة واللين بحال المسلمين، لكنه استرسل قائلا: أتسمعينني؟ قلت: نعم أسمعك، قال: فقلت لهم: هناك مَن يدفع لي أكثر، لعلمي بأن الحسنة بعشرة أمثالها، فأخبرتُ أبا حفص عمر رضي الله عنه وأرضاه، أن يوزعها على أهل المدينة ومَن حضر في سبيل الله وإني أشهدتُ الله، وأشهدت عمر، وأشهدتُ ابن أبي طالب رضي الله عنه، وأشهدك على ذلك، فعسى أن يطلق الله ساقيَّ، ومضى.
فرجعتُ أجرجر أذيالي وأنا أتمتم: أبأصحابِ رسول الله تظنين الظنون؟ فليتكِ ما كنتِ ولا كنتِ، إنه أحد العشرة الرائحين إلى الجنة. قالت: فلبستُ وخرجتُ لأشهد الحدث فوجدتُ عليًّا يصفُّ الإبل ومعه رهط من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقد أفرغوها من أحمالها ووزعوها على أهل المدينة، وبقيت الإبل تَصفُرُ في الهواء، وعبد الرحمن يقول لعمر ما لي وهذه الإبل؟ اجعلها في إبل الصدقة. تقول السيدة عائشة: فوالله ما بات ليلتها في المدينة جوعان.
على نهج النبوة، سار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في البذل والعطاء والإنفاق والمسارعة إلى الخيرات، والقصص الدالة على ذلك أكثر من أن تُحصى. فها هي قصة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، في تجهيزه جيش العُسرة، وهو جيش غزوة تبوك، يقول ابن هشام في «السيرة النبوية»: حدثني مَن أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارض عن عثمان فإني راضٍ عنه». وعن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة. قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده، ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم». وقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَهَّزَ جيش العُسْرَة فَلَهُ الجنة».
يقول الله سبحانه وتعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (آل عمران: 133 و134). وعن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حتى ينسلخ، فيأتيه جبريل فيعرض عليه القرآن، فإذا لقِيَه جبريل كان رسول الله أجودَ بالخير من الريح المُرسَلَة.
هذه قصة أخرى من قصص المسارعة إلى الخيرات، بطلها عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، والذي يُروَى أنه تصدق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله، ثم تصدق بعد ذلك بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمئة فرس في سبيل الله، وخمسمئة راحلة، وكان أكثر ماله من التجارة.
يُروَى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لما حثَّ أصحابه على تجهيز جيش العسرة، سارع الأغنياء والفقراء إلى تلبية دعوة الرسول، وفي ذلك أنزل الله تعالى قوله: «لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» (التوبة: 117).
عناوين متفرقة
قد يعجبك ايضا







