د. جاسم المناعي *
في أهم وأشهر كتاب صدر عن عالم الرياضيات الأمريكي اللبناني الأصل نسيم نيكولاس طالب تم تسليط الضوء على إمكانية حدوث غير المتوقع وترمز الإشارة إلى البجعة السوداء إلى عدم استبعاد الأمور غير المألوفة والتي في الغالب يصعب التنبؤ بها وقد تم ربط عدة أزمات مالية واقتصادية وكذلك بعض الكوارث الطبيعية التي حدثت دون سابق إنذار بهذه النظرية ونظراً للأهمية الكبيرة للدولار الأمريكي بالنسبة لاقتصاديات العالم وبسبب استقرار وضع هذه العملة على مدى عقود من الزمن فإن أي تغيير مفاجئ في وضع الدولار من شأنه أن يندرج ضمن تفسيرات نظرية البجعة السوداء.
ماذا يمكن أن يحدث للدولار ولماذا؟
لا نعتقد أن محاولات مجموعة دول «البريكس» من شأنها أن تحدث تأثيراً كبيراً على وضع الدولار لكن التخوف يأتي من خلال السياسات العشوائية للإدارة الأمريكية الحالية التي قد تفكر في اتخاذ إجراء مهم على وضع الدولار اعتقاداً منها بأنه في صالحها وإن كان ذلك على حساب مصالح الدول الأخرى التي ترتبط اقتصادياتها بالدولار الأمريكي وذلك وفقاً للشعار الذي ينادي به الرئيس الأمريكي «أمريكا أولاً» أن أحد الإجراءات غير المتوقعة -لكن قد لا تكون مستبعدة- هو التفكير في تخفيض قيمة الدولار وذلك لتحقيق هدفين في آن واحد. الأول وسيكون شبيها برفع الرسوم الجمركية حيث سيجعل البضائع والمنتجات الواردة إلى أمريكا من الخارج أعلى ثمناً بحكم أن القوة الشرائية للدولار أصبحت أقل من السابق. أما بالنسبة للبضائع والمنتجات المصنعة محلياً في أمريكا والمسعرة بالدولار فقد يعتقد بأنها لن تتأثر بتغير قيمة الدولار ولو أنها مع الواقع سوف تتأثر لا محالة، الهدف الثاني والأهم فقد يكون لمعالجة مديونية أمريكا المرتفعة.
إن الرئيس الأمريكي حسبما يبدو مهوس بالرغبة في تحقيق إنجاز يحسب له على صعيد تخفيض عجز الميزانية وتخفيض مديونية أمريكا بشتى السبل وإن كان ذلك على حساب المستثمرين من دول العالم على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة، إن تخفيض قيمة الدولار بأية نسبة كانت، سوف تستقطع بالتأكيد تريليونات من قيمة استثمارات دول العالم في الأصول الأمريكية سواء كانت استثمارات في شركات أو سندات أمريكية. طبعاً مثل هذا الإجراء من شأنه زعزعة الثقة في أمريكا وفي العملة الأمريكية على صعيد العالم، لكن وللأسف فإن الإدارة الأمريكية الحالية وعلى ضوء الممارسات التي انتهجتها مؤخراً لا يبدو بأنها تكترث كثيراً لمصالح الدول الأخرى فالمهم بالنسبة لها هو «أمريكا أولاً».
الكارثة -لا سمح الله- إن وقعت فلن تتوقف تداعياتها فقط على خسارة مهمة لاستثمارات دول العالم في الاقتصاد الأمريكي بل إن الدول التي ترتبط اقتصادياتها بالعملة الأمريكية سوف تتأثر وبشكل كبير وفقاً لذلك، إن النفط وعملات دول المنطقة مقومة بالدولار ولذلك فإنه في حالة خفض قيمة الدولار فإن إيرادات النفط والذي يمثل مصدر الدخل الرئيسي من شأنها أن تنخفض، كذلك فإن قيمة عملات المنطقة بحكم ارتباطها بالدولار من شأنه أن يضعف القوة الشرائية لهذه العملات. ونظراً لكون دول المنطقة هي دول مستوردة أكثر من كونها مصدرة فإن الأمر سوف ينعكس في شكل ارتفاع تكاليف المعيشة وارتفاع الأسعار والوضع قد يكون أكثر صعوبة مما تم التطرق إليه حتى الآن، حيث إن انخفاض قيمة عملات المنطقة يؤثر على مستوى الرواتب والمستحقات المالية الأمر الذي قد يستلزم معالجات مالية بالتأكيد ليست باليسيرة. أملنا بأن مثل هذا السيناريو لا يحدث وإن نظرية البجعة السوداء لا تتحقق، لكن وكما نعرف فإن الاحتياط واجب وإن التدابير ضرورية للتعامل مع مثل هذه الظروف وإن كانت ظروف مستبعدة إلا أنها قد تكون بمثابة عملية تحوط من شأنها دفع الضرر إن لم يكن تجنبه بشكل تام، إن انفتاح دول المنطقة على خيار مجموعة دول البريكس يمثل جزءاً من معالجة هذه المعضلة وإن كان الإنجاز الذي تم على صعيد هذه المجموعة لا يصل حتى الآن إلى المستوى المطلوب. وبدون انتظار تحقق مزيد من التقدم على صعيد مجموعة البريكس فإن دول المنطقة يمكنها التحرك بشكل أسرع وكأجراء استباقي ومن الضروري في هذا السياق العمل على توزيع المخاطر من خلال تخفيض درجة الانكشاف على جهة أو اقتصاديات معينة وخلق توازنات مريحة أكثر في العلاقات الاقتصادية الدولية، هل مثل هذه الإجراءات كفيلة بألا نواجه يوماً من الأيام البجعة السوداء؟
من الصعب في الواقع الجزم بذلك.
* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي