تحولات معادلة الأمن في الشرق الأوسط

00:02 صباحا
قراءة 4 دقائق

خميس عبيد آل علي*

منذ أن شنَّت حركة حماس هجومها المفاجئ على جنوب إسرائيل، في السابع من أكتوبر2023، واندلعت في إثره حرب غزة التي تمدَّدت إقليمياً إلى العديد من الساحات، تعيش منطقة الشرق الأوسط فترة من «السيولة الاستراتيجية». ويُستخدَم هذا المصطلح في حقل العلاقات الدولية لوصف الفترات التي تسود فيها الفوضى وغياب الاستقرار في البِنى الإقليمية أو الدولية، في عملية غالباً ما تفضي -كما يخبرنا التاريخ- إلى إعادة تشكيل خرائط النفوذ والتحالفات.
وبرغم أن حرب غزة شكَّلت بلا شك نقطة مفصلية كشفت عن عمق هذه الحالة في منطقة الشرق الأوسط، فإن جذورها تعود إلى ما قبل اندلاع الحرب، وتحديداً إلى التغيرات الإقليمية والتحولات البنيوية في السياسة الأمريكية المتذبذبة تجاه المنطقة، ولكن متى بدأت هذه الحالة؟ وكيف تشكلت؟ ولماذا؟
لا يختلف المراقبون للشأن الإقليمي في وصف قرارَي إدارة باراك أوباما، الرئيس الأمريكي الأسبق، بدعم صعود التيارات الدينية المتطرفة إلى الحكم خلال ما سُمي «الربيع العربي»، وتوقيع اتفاق نووي «هزيل» مع إيران لا يراعي مصالح دول الإقليم، بأنهما شكَّلا منعطفاً تاريخياً أظهر ضرورة عدم التسليم الأزلي بموثوقية الشريك الأمريكي، وكذلك عدم الاستهانة بتداعيات استراتيجية «الاستدارة شرقاً» على استقرار المنطقة.
ومنذ تلك اللحظة دخلت المنطقة حالة مستمرة من «السيولة الاستراتيجية»، تراكمت فيها التداعيات الأمنية، وكان من أبرز مظاهرها: صعود تنظيم داعش الإرهابي، وسيطرته على مساحات شاسعة من أراضي الهلال الخصيب، في ظل هشاشة الهيكليات الأمنية، وتضعضع مكانة الدول الوطنية بمفهومها الدارج بعد جلاء الاستعمار.
وبرغم نجاح الأطراف الإقليمية والدولية في هزيمة تنظيم داعش، وتقليص نفوذه، فإن حالة السيولة هذه فسحت المجال أمام بروز محاور إقليمية تتخذ من الأيديولوجيات المتطرفة ومناكفة فكرة «الوطن» و«الحدود الوطنية» دستوراً لها، مثل ما يعرف باسم «محور المقاومة»، والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
وقد تسببت هذه المحاور بتكريس ممارسات سياسية وعسكرية هدَّامة، أمعنت في تفكيك الهياكل التقليدية للسلطة، وأعاقت محاولات إعادة ترميم النظام الإقليمي العربي، فقد تبنّى ما يسمى «محور المقاومة» -الذي ينضوي تحت مظلته تنظيمات مثل حزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن، وفصائل فلسطينية في غزة- نموذجاً قائماً على عسكرة الطائفة، وتوظيف الأزمات المحلية لبناء نفوذ إقليمي واسع، غالباً خارج إطار الدولة المركزية، بل على حسابها في كثير من الأحيان. أمَّا التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، فقد استغل الفراغ السياسي الذي أعقب سقوط أنظمة ما قبل «الربيع العربي»، محاولاً فرض نموذج «الدولة الأيديولوجية العابرة للحدود»، التي تتقدم فيها أجندة التنظيم على مصالح الشعوب والدول.
وفي هذا المشهد المعقَّد أصبحت خريطة التحالفات الإقليمية أكثر تعقيداً، وأقلَّ ثباتاً، فالدول الإقليمية لم تعد تنتظر إشارات من واشنطن لترتيب أولوياتها، بل باتت تسعى إلى تنويع شركائها الاستراتيجيين، والانخراط في تحالفات مرنة تقوم على المصالح الآنيّة والبراغماتية السياسية، كما رأينا في الانفتاح العربي النسبي تجاه الصين وروسيا.
وهكذا تكتمل صورة «السيولة الاستراتيجية»: حالة يغيب فيها المركز الثابت، وتتبدل فيها قواعد اللعبة بسرعة، من دون وجود إطار إقليمي حاكم، أو مظلة دولية ضامنة، ولا تنبع هذه الحالة من تحولات السياسات الأمريكية، أو تداعيات الحروب والصراعات فقط، بل تعبّر أيضاً عن نهاية حقبة تاريخية كان فيها «الشرق الأوسط» ساحة تابعة لمراكز القوى الخارجية، وإيذاناً بحقبة جديدة، تُصاغ فيها خرائط النفوذ من داخل الإقليم نفسه، ولكن بلا بوصلة واضحة، أو توافق جامع.
وإذا كانت «السيولة الاستراتيجية» هي المرحلة التي تسبق نشوء نظام جديد، فإن السؤال المنطقي الآتي يصبح: أي نظام قد ينبثق من هذا الوضع؟ وهل تتوافر الشروط الموضوعية والذاتية لولادة نظام إقليمي أكثر تماسكاً واستقراراً، أو أن المنطقة ستبقى عالقة في دائرة إعادة إنتاج الفوضى؟
الاحتمال الأول يشير إلى إعادة تشكُّل النظام الإقليمي على أسس جديدة، تتجاوز مركزية الدولة الوطنية بمفهومها التقليدي، وتتبنَّى نماذج أكثر مرونةً في الحكم والسيادة، تستوعب وجود الفاعلين ما دون الدول، ولكن ضمن أطر قانونية وسياسية تضبط سلوكهم، وتمنع تكرار سيناريوهات الانهيار، ويتطلب هذا المسار إرادة دولية حقيقية، وضغطاً على القوى الإقليمية الكبرى لقبول توازنات جديدة لا تُقصي أحداً، ولكنها لا تُكافئ الفوضى.
أمَّا الاحتمال الثاني –وهو الأكثر ترجيحاً في المدى القريب– فهو استمرار هذه «السيولة» ضمن حالة من الجمود المتوتر، تتعايش فيها أنظمة الحكم مع واقع الانقسام، وتُدار فيه الصراعات بدل حلِّها، بما يُبقي المنطقة على فوهة بركان سياسي وأمني دائم، ويجعل أي محاولة لبناء سلام إقليمي، أو استقرار مستدام، رهينة لتحولات مفاجئة، أو انفجارات موضعية تُعيد خلط الأوراق مجدداً.
وفي كلا الاحتمالين تبقى الدول العربية أمام استحقاق تاريخي: إمَّا أن تواصل البقاء داخل مصالح آنيَّة ضيقة، وتغرق أكثر في لعبة المحاور، وإمَّا أن تتبنّى مقاربة عقلانية مؤسسة على أولويات الأمن القومي، وتعزيز البنية الداخلية للدولة، وبناء شبكات تعاون عربي حقيقية قادرة على خلق توازن إقليمي من الداخل، وليس بالوكالة عن قوى كبرى.
وفي المحصلة أن الشرق الأوسط يعيش مخاضاً عسيراً لولادة نظام جديد، ولكنَّ السؤال الذي لم يُحسم بعد هو: هل سيكون هذا النظام أكثر استقراراً وإنصافاً، أو مجرد إعادة إنتاج لخرائط النفوذ، بوجوه مختلفة، وأدوات أكثر تعقيداً؟

* باحث في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية

[email protected]

عن الكاتب

باحث في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"