الناشر: دار روايات
الشارقة: علاء الدين محمود
يحدثنا تاريخ الأدب عن الكثير من الملاحم الشعرية الخالدة مثل: «الإلياذة»، و«الأوديسة»، و«الشاهنامه»، و«الفردوس المفقود»، و«المهابهاراتا الهندية»، وغير ذلك من ملاحم عجائبية كانت بمثابة وثيقة للكثير من القيم لأمم مختلفة، وعلى الرغم من أن إفريقيا هي أرض الأساطير والعجائب والغرائب، فإنها تكاد تكون خلواً من مثل هذه الملاحم التي تتغنى بالحياة والحرية والبطولات والأمجاد، ولئن تأخرت القارة السمراء عن ركب الأمم التي انتقلت في وقت باكر من الثقافة الشفاهية، فإن إفريقيا اليوم تحتضن وفرة من الشعراء والكتاب الذين تربوا على القصص والحكايات.
كتاب «التاسوع الكامل»، للروائي والشاعر الكيني نغوغي وا ثيونغو، الذي صدر عربياً في طبعته الأولى عام 2024، عن دار روايات، بترجمة محمود راضي، عيد ذاكرة الملاحم الشعرية القديمة التي وثقت حكاية الإنسان وكفاحه مع الحياة والطبيعة، ولعل ما يميز ملحمة وا ثيونغو، أنها تحمل تفاصيل قصة إفريقية جرت في عصور مضت، تضع القارئ مباشرة أمام أسرار القارة البكر غير المكتشفة في كثير من الجوانب، خاصة الأدب والحكايات، ويمارس المؤلف تلك المهمة باقتدار كبير؛ حيث يقدم تفاصيل حكاية عامرة بالصور والمواقف والقيم والأخلاق، ويتوغل داخل التاريخ الإفريقي، وكأنه يستدعي روح الأجداد كي تعين على قسوة الحاضر، كأنه ينهل من نبع الحكمة الأساسي، حيث يتنقل الكتاب من حقبة في التاريخ إلى أخرى، يتجول في بقاع مقدسة عاش فيها الأجداد لتشكل الملحمة جسراً بين الذي مضى وراهن اليوم، ومن يفعل ذلك غير وا ثيونغو صاحب الملاحم الأسطورية التي طرزت نسيج كتاباته الشعرية والروائية، هو وا ثيونغو الذي أراد أن يقول: «لنا هويتنا وإرثنا وحضارتنا وحكاياتنا التي تحملها الأجيال المتعاقبة».

رحلة الأخطار
تتناول الملحمة إحدى الجماعات التي تشكّل قوام الأمّة الكينيّة؛ إذ تروي أنها انحدرت من رجلٍ (جيكويو) وامرأة (مومبي) اللذين وجدا نفسيهما فوق جبل كينيا المغطّى بالثلوج، ومن هناك انطلقا في رحلة مملوءة بالأخطار والاختبارات، لتنكشف في كل اختبارٍ طبقةٌ من طبقات حقيقة وجودهما، وتتجلى أسرار الطبيعة من حولهما. هكذا حتى وصولهما إلى (موكورو وايني)، المكان الذي سينجبان فيه عشر بنات يُطلق عليهنّ «التاسوع الكامل»، لتشاؤم القبيلة من الرقم عشرة، وحين يبلغن سن الزواج ويذيع صيتهن لقوّتهن وحكمتهن، يتقدّم عددٌ من الشبّان من كل أنحاء البلاد للزواج منهن، فيرسل الأبوان الشبابَ والفتيات معاً في رحلة ملحمية أخرى لاكتشاف مخاطر الحياة واختباراتها لتحديد من يصمد في الاختبار ليستحق هبة الحياة والزواج.
تفاصيل
تستند الحكاية الشعرية إلى أسطورة تقول إنه عندما بلغت الفتيات سن الزواج، عاد جيكويو إلى قمة الجبل وطلب من الله أن يمنحهن أزواجاً. عند الاستيقاظ في صباح أحد الأيام، وجدت العائلة عشرة شبان خارج منزلهم في موكوريويني. سميت عشائر شعب جيكويو على اسم البنات العشر. الملحمة تجيب عن سؤال: من أين جاء الخاطبون العشرة؟ وماذا فعلوا والمخاطر التي خاضوها، وتتصاعد الحكاية شيئاً فشيئاً إلى أن تصل إلى ذروتها ثم نهايتها التي تحمل الكثير من التفاصيل والوقائع الغريبة.
وعلى الرغم من أن الذين تقدموا لخطبة الفتيات كانوا 10 من الشبان، فإن تفاصيل الحكاية تأخذ منعرجات عجيبة بحيث يرتفع العدد إلى 100 شاب، فقد كان الهم الأعظم هو تزويج الفتيات من قبل الأب والأم جيكويو ومومبي، لكن ذلك الأمر لم يكن يسيراً بالمرة، فهناك كثير من المخاطر والتحديات الجسام والظروف القاسية، إذ لابد لهؤلاء الشباب أن يخضعوا لجميع أنواع الاختبارات في مواجهة صعاب الطبيعة من غابات وصحارى ووديان وجبال وثلج وبراكين، وما تزخر به تلك الطبيعة من وحوش وكائنات مفترسة حقيقية وأخرى أسطورية مثل الغيلان، وهناك من تساعده همته على المضي قدماً في طريق الصعاب، وفيهم من يسقط في منتصف الطريق، لكن الهدف سامٍ وعظيم وهو الزواج من بنات الأب والأم جيكويو ومومبي.
سأروي
يستدعي الكاتب ذاكرة السرد الشفاهي الإفريقي حين كانت الروايات تنقل عبر الأفواه، في وقت لم تُعرف فيه القراءة، ولذلك لجأ لتلك البداية المبهرة «سأروي»، التي تحمل الكثير من المضامين والدلالات والتي تحيل إلى ما يعني الكشف عن قصص لم تسمعوها وبأسلوب لم تعتادوا عليه، هي حكايات الأجداد بطريقة إلقائهم الساحرة الممتعة، بالشعرية التي عرفوها وأتقنوها فكانت وسيلتهم في سرد الحكايات، وجاء في هذه القطعة الافتتاحية المهيبة «سأروي قصة غيكويو ومومبي/ وبناتهن التسع المثاليات/ أمهات بيت مومبي/ مؤسسات عشائرهن التسع/ أسلاف أمة/ سأروي رحلاتهن/ والصعاب التي لا تُحصى التي واجهتها في الطريق»... ولعل هذه الافتتاحية التي تشبه مقدمة خبر مهم بلغة الإعلام، تريد أن تضعنا في قلب الحدث، بل الأحداث المتتالية والمتناسلة.

صدى
وجدت الملحمة الأسطورية صدى كبيراً فور نشرها عام 2018، وترجمت إلى الإنجليزية عن اللغة الأصل «غيكويو»، بواسطة المؤلف نفسه، وحظيت بالكثير من التناول من قبل النقاد، وأشاروا إلى أن هذه الملحمة هي بحث عن الجمال كمثال للحياة، وكقوة دافعة لهجرات الشعوب الإفريقية، ويقول وا ثيونغو عن ملحمته هذه: «جاءتني الملحمة ذات ليلة ككشفٍ لمُثُل السعي والشجاعة والمثابرة والوحدة والأسرة؛ والشعور السامي، في صراع الإنسان مع الطبيعة والتنشئة»، والواقع أن هذه الحكاية كثيراً ما قورنت من قبل النقاد بملحمتي الأوديسة لهوميروس والإلياذة، لما فيها من حكايات بطولية، غير أن بعض من الكتاب والمؤرخين يرون فيها ملحمة أفريقية خاصة، وربما تقترب من الملاحم الشرقية؛ لأنها تعلي من القيم والأخلاق، وقد ذكر الكاتب نفسه أنه استخدم ملحمة تأسيسية كتالونية كمصدر إلهام رئيس، وكانت هذه الحكاية الشعرية ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر الدولية لعام 2021.
أسلوب
يتميز الكتاب بالسهولة التي تجعل الحكاية القصصية الشعرية مفهومة، لكنها في الوقت نفسه لا تخلو من التعقيد، حيث تحتشد بالتكرار خاصة في ما يتعلق بالأبيات الشعرية التي تعلي من شأن البطولة وتذكر بالأجداد، وفيها إشارات لقوى خفية، مع استعانة واسعة بالأساطير مثل كل المرويات التاريخية الشفهية الإفريقية، ويكشف العمل عن الثقافة الإفريقية وما تحفل به من غرائبيات مثل توظيف السحر وغير ذلك والخوف من قوى الطبيعة الغامضة، كما تحفل بالحكمة خاصة في ما يرتبط بانتصار الأبطال غير المتوقعين في معركة التنافس من أجل الزواج بالفتيات التسع، وتُبرز الملحمة براعة المؤلف الأدبية الكبيرة، فعلى الرغم من تعدد محاور ومنعطفات السرد، فإنه نجح في اختبار الحافظ على رؤيته وفكرته الأساسية، مع الاحتفاء باللغة الإفريقية والثقافة الشفاهية، كما يكشف الكتاب عن موقع المرأة المميز في التاريخ الإفريقي.
يحتفي الكتاب كذلك بالأجداد والآباء المؤسسين، خاصة في تلك الإشارة الشعرية اللافتة والتي جاء فيها: «ابحثوا عني بين الذين يبنون الأمة باسم الإنسان»، كما أن العمل ينهض برافعة الطابع الغنائي، ولذلك لجأ المؤلف إلى التكرار في كثير من الأحيان، حيث تحمل تلك الأغاني أبعاداً سياسية واجتماعية وعمق فكري، إضافة إلى المتعة والتسلية.
اقتباسات
«المرأة هي أم الحياة».
«لكل شيء صوت، عندما يصطدم الصوت بشيء، يعود صدىً».
«الأذن عين الروح».
«سنعود إلى الجبل الذي أتينا منه».
«لا تبحث عني في الأعمال الشريرة».
«لا يكون اسمي في أفواه الذين يخططون للشر».
«ابحث عني في المطر».
«إعاقة الجسد لا تعني إعاقة القلب والعقل».
«إن القسوة بين البشر أسوأ من التي بين الحيوانات والبشر».
«البناء يتطلب العمل الجاد».