حسن إبراهيم العيسى النعيمي*
يشهد العالم العربي اليوم حالة من التشتت غير المسبوق، وسط أزمات متلاحقة أثّرت في عمق الدولة الوطنية وأضعفت منظومة الأمن القومي وعمّقت التبعية للخارج وكشفت عن هشاشة الروابط الجامعة بين الشعوب العربية.
وعلى الرغم من أن المشروع القومي العربي لم يخلُ يوماً من التحديات والعثرات، إلا أنه مثّل في مراحل تاريخية مفصلية أملاً في وحدة الصف العربي وتكامل المصالح والانعتاق من الهيمنة الأجنبية.
وفي ظل التحولات العميقة التي يشهدها النظام الدولي، تبدو الفرصة اليوم مواتية أمام العرب لإعادة النظر في هذا المشروع، وبنائه مجدداً على أسس واقعية وعملية، تراعي التدرج وتحترم الخصوصيات وتحقق التكامل، من أجل استعادة التأثير العربي وصياغة دور فاعل في معادلات النظام العالمي الجديد.
غير أن تحقيق هذه الغاية يقتضي بداية تشخيصاً دقيقاً لأسباب التعثر المتراكم، ومن أبرزها غياب الرؤية الجامعة والقيادة المؤسِّسة، واحتدام الصراعات على الزعامة من دون مشروع موحد وقد أسهم فشل محاولات الوحدة السابقة في ترسيخ القناعة بأن العجلة، وغياب البنية المؤسسية، قد يكونان أسوأ عدوّ للمشروع القومي. كما أن تنازع المشروع القومي مع التيارات الإسلامية والليبرالية والطائفية، أضعفه وقلّص من حضوره الشعبـي. فـــــي المقابل، تراجع دور المؤسسات الإقليميــــة التقليدية وعلى رأسها جامعة الدول العربية، التي تحوّلت من منبر للعمل المشترك إلى منتدى لتصريف الخلافات القُطرية وبات واضحاً أن الإرادة السياسية في كثير من الدول العربية مفقودة، وأن الهيمنة القُطرية والارتهان للمصالح الخارجية تطغى على أي تفكير جماعي في المصير العربي المشترك.
في سبيل إحياء المشروع القومي، لا بد من تجديده على أسس واقعية تنبذ الانصهار الفوقي وتتبنى التكامل التدريجي، بحيث تركز على وحدة المواقـــــف، وتنسيـــــق السياســــات وتكامــــل القدرات في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، كما ينبغي أن يكون هذا المشروع جامعاً لا ملغياً للهويات الوطنية والثقافية، معتمداً على الاعتراف بالتنوع كرافد لا كتهديد، لقد آن الأوان للانتقال من الشعارات العاطفية إلى البرامج القابلة للقياس والتنفيذ ومن التنظير إلى الفعل المؤسسي ومن الحنين إلى الماضي إلى صناعة المستقبل.
ولا يمكن لأي مشروع قومي أن ينجح ما لم يرتبط بمشاريــــع تنموية واضحة تعزز الأمن الغذائي والمائي والاقتصادي والدفاعي، إن النماذج العالمية الناجحة، مثل الاتحاد الأوروبي ورابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان)، تؤكد أن التدرج المؤسسي والتكامل الوظيفي هو السبيل إلى بناء تكتلات فاعلة، حتى بين دول مختلفة في أنظمتها ومستوياتها التنموية.
إن خارطة الطريق نحو مشروع عربي متكامل تتطلب مراحل ثلاثاً، تبدأ المرحلة الأولى، خلال خمس سنوات، بإعادة هيكلة جامعة الدول العربية لتفعيل دورها التنسيقي ضمن نطاقات متفق عليها وإنشاء مجلس تنسيقي اقتصادي للدول الراغبة وتدشين شبكة بنية تحتية عربية مشتركة في مجالات المواصلات والطاقة والاتصالات كما ينبغي دعم منصة إعلامية رقمية موحدة تُعزز الوعي القومي بعيداً عن الخطابات التحريضية وتشجيع التعاون البحثي والأكاديمي بين المؤسسات التعليمية ومراكز الفكر.
وفي المرحلة الثانية، التي تمتد من خمس إلى عشر سنوات، يُمكن إطلاق سوق عربية موحدة للسلع والخدمات على أساس التوافق الاقتصادي وتأسيس صندوق تنمية واستثمار عربي برأس مال خليجي، وإنشاء قوة دفاع عربية مشتركة تحت مظلة مجلس الدفاع العربي، كما يجب بلورة سياسات زراعية ومائية مشتركة وتأسيس برلمان استشاري يعكس التوافق التشريعي والتنسيق بين الدول الأعضاء.
أما المرحلة الثالثة، فتقوم على صياغة ميثاق عربي جديد يقره القادة العرب، يحدّد أسس التكامل المرحلي والانتقال إلى نموذج الاتحاد التنسيقي في مجالات محددة، مع توسيع النطاق ليشمل العرب في المهجر وبعض المجتمعات الإفريقية التي ترتبط مصالحها بالعالم العربي.
التحديات بلا شك كثيرة، منها اختلاف الأنظمة السياسية وتضارب المصالح وتنامي التدخلات الإقليمية والدولية، فضلاً عن هشاشة بعض الدول أمنياً واقتصادياً. إلا أن الفرص أيضاً متاحة، في ظل نظام دولي يتجه نحو التعددية وفي ظل امتلاك العرب لثروات مالية وبشرية ضخمة ونشوء وعي شعبي متزايد بأهمية التعاون والتكامل ووجود أقاليم عربية قابلة للانطلاق مثل دول الخليج والمغرب العربي.
لم يعد المشروع القومي العربي ترفاً فكرياً أو مشروعاً نظرياً مؤجلاً، بل أصبح ضرورة استراتيجية ملحّة لدرء الأخطار ومواجهة التحديات التي باتت عابرة للحدود، فإما أن يتحرك العرب لبناء مشروعهم الجامع من خلال التدرج والتوافق وإما أن يُترك المجال لتفكك مستمر وتبعية دائمة.
وفي الختام، ما هو مطلوب اليوم ليس العودة إلى الماضي، بل بناء المستقبل بثقة ومسؤولية وإرادة سياسية صادقة، من أجل فضاءٍ عربيٍّ حرٍ، متكاملٍ، مزدهرٍ، يُعيد للعربِ دورَهم الحضاري ومكانتهم التاريخية بين الأمم.
* باحث في القضايا القومية والأمنية