عادي

«الروبوت».. فيلسوفاً

00:02 صباحا
قراءة 12 دقيقة

الشارقة: علاء الدين محمود

مع التطور المتسارع الذي يكاد يكون يومياً في التكنولوجيا والرقمنة بدأ الحديث مرة أخرى عن إمكانية أن تقوم الآلة أو «الروبوت»، بمهمة التفكير بدلاً من الإنسان، وربما زاد توهج هذه الفكرة مع الانفجار الكبير في مجال الذكاء الاصطناعي الذي بات يشغل البشر ويثير دهشتهم لما يملك من إمكانات كبيرة في مختلف التخصصات والمجالات التي تم توظيفه فيها، الأمر الذي صار معه الكثير من العلماء والمفكرين والناس العاديين يطلقون العنان لخيالهم في تصور وجود «روبوت»، مفكر أو ربما فيلسوف يتصدى لعملية إنتاج المفاهيم والتصورات في قضايا ظلت هي من صميم عمل الفلاسفة.

هناك الكثير من المؤلفات والكتب صارت تتحدث عن الآلة وإمكانية تطورها وولوجها حقول جديدة غير المهام التي ظلت تنجزها كمساعد للبشر، أي بمعنى أن تحل بديلاً منه، وربما كان لنجاح الذكاء الاصطناعي في مجالات ذات طابع فكري في ذات الوقت مثل الأدب في مجال إنتاج النصوص، حتى إن كانت بدائية، يجعل حلم «الروبوت» المفكر مشروعاً.

فتنة المفكرين بهذا النوع من الأحلام والخيالات والعمل على تحقيقها ليس بالشيء الجديد، فالتاريخ القديم يحدثنا عن ما عرف ب«حجر الفلاسفة»، وهو حجر متخيل ويعد أغرب مادة بنى عليها العلماء والمفكرون آمالاً وأحلاماً كبيرة في صنع واقع جديد وابتكارات وفتوحات في معارف مختلفة، حتى أصبح هذا الحجر «حدوتة» وحكاية غريبة من عالم الأساطير، حيث يعزى إلى حجر الفلاسفة العديد من الخصائص الصوفية والسحرية، وأكثرها شيوعاً هي القدرة على تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب أو فضة، والمقدرة على شفاء جميع أشكال المرض وإطالة حياة أي شخص يستهلك جزءاً صغيراً من حجر الفلاسفة، وتشمل الخصائص الأخرى المعروفة: إنشاء مصابيح مضيئة على الدوام، إحياء النباتات الميتة، إنشاء مواد مرنة، وكذلك المقدرة على الاستنساخ، ما جعل ذلك الحجر محط آمال الفلاسفة والمفكرين والعلماء، حتى إنّ الأدب تناول واستلهم فكرة الحجر وحولها لأعمال إبداعية في مجالات الشعر والرواية، ولعل المفيد في قصة الحجر تلك، أن الفلاسفة يصنعون عوالم خيالية بمادة اللغة والأفكار، ويعملون على تحقيقها بما يخدم البشرية، وربما كانت فكرة الروبوت المفكر هي بمنزلة «حجر الفلاسفة»، الجديد الذي تُبنى عليه أحلام جديدة تتفق مع روح عصر سيادة وغلبة التقنية.

فكرة قديمة

إن فكرة الروبوت المفكر أو بناء آمال على الآلة للقيام بمهام في التفكير بدلاً من البشر ليس بالأمر الجديد، ذكرنا في المستهل، أن الحديث عن تلك الإمكانية بدأ في الظهور مجدداً، وذلك لوجود إرهاصات وتوقعات قديمة أن يكون للآلة دور غير تقليدي في حياة البشر، بل إن الاهتمام بالآلات وقدرتها على التفكير بدأ منذ عصور قديمة، ولكن تزايد بشكل أكبر في القرن العشرين، وهناك محطات مهمة حكمت مسار ذلك المسعى، ففي قديم الزمان سادت الأساطير حول الآلة وكان قدماء الإغريق قد صمموا آلات بسيطة، وفي القرن السابع عشر قدم الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت أفكاراً حول العقل والجسد فتحت الأسئلة حول الذكاء البشري وإمكانية توظيف الآلة، ولعل المنعطف الكبير الذي جعل الأفكار حول الآلات تتنزل من سماء التجريد والأحلام إلى الواقع هو ظهور الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، حيث بدأ استخدام الآلات على نطاق واسع، ما أتاح التفكير حول تطوير عملها، أما في القرن العشرين، وخاصة في فترة الأربعينيات والخمسينيات، ولدت فكرة الذكاء الاصطناعي بصورة رسمية على يد الألماني ألن تورينغ، وهو عالم رياضيات وحاسوب، إضافة إلى كونه فيلسوفاً ومفكراً ومحلل شفرات، فكان له الأثر الحاسم في تطوير علم الحاسوب النظري، حيث قدم صياغة رسمية لمفهومَي الخوارزمية والحوسَبة باستخدام آلة «تورنغ»، والتي يُمكن اعتبارها من بين النماذج الأولى للحواسيب مثلما هي عليه اليوم، بالتالي ينظر إلي تورنغ على نطاق واسع باعتباره «أبو علوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي»، ومع ظهوره ظهرت فكرة إمكانية أن تفكر الآلات.

وحملت حقبة الستينيات والسبعينيات ملامح برامج حاسوبية قادرة على أداء مهام ذكية، ما زاد من الاهتمام بفكرة أن الآلات يمكن أن تُفكر أو تحتذي بالبشر، بينما بدأت تتبلور تصورات جديدة في فترة الثمانينيات والتسعينيات حول الذكاء الاصطناعي بما في ذلك التعلم الآلي، ما سمح للآلات بالتكيف والتعلم من البيانات، وكانت القفزة الكبيرة في القرن الحادي والعشرين الذي شهد التطور السريع في الحوسبة والبيانات الكبيرة ما عكس تقدماً كبيراً في الذكاء الاصطناعي، وزاد التركيز على الروبوتات التي تعمل بوساطة الذكاء الاصطناعي لتصبح جزءاً من الحياة اليومية، ما أثار اهتماماً مجتمعياً أكبر، فاليوم يعتبر الذكاء الاصطناعي جزءاً مهماً من التطور التكنولوجي ويستمر النقاش حول ما إذا كانت الآلات يمكن أن تصل إلى مستوى التفكير البشري.

جدل

قضية الآلات ودورها في عملية التفكير، أو حلولها محل الإنسان كانت على الدوام محل جدل كبير بين العلماء والمفكرين والأدباء والفلاسفة الذين تناولوا هذه القضية كل من حيث اهتمامه وموقعه، لكنهم جميعاً يشتركون في نقطة أن التطور الصناعي والعلمي الهائل أوجد مكانة للآلة وأطلق العنان للخيال حول دورها الحالي والمستقبلي، والواقع أن هذه الآراء تباينت حول إمكانية أن تصبح للآلات إمكانية التفكير البشري فمنهم من يرى أنه لا بديل للعقل البشري، وأن الآلة قد يكون لها دور في التأثير في المجتمع، بينما وجد آخرون أن الآلات قد تقوم بدور أكبر إلى حد أن تتمتع بإمكانية التفكير، حيث تتراوح الآراء بين التشكيك في قدرة الآلات على التفكير بواقعية، وبين اعتبار أن التفكير يمكن أن يُحقق من خلال تصميم تقني متقدم.

ولعل من أكثر الفلاسفة الذين تحدثوا عن الآلة في القرن العشرين من وجهة العمل والتأثير الاجتماعي هو كارل ماركس الذي تناول فكرة أن التطور التكنولوجي قد يؤدي إلى استبدال العمالة البشرية بآلات وروبوتات، وأن ذلك الأمر سيكون له تأثيره في البنى الاجتماعية والاقتصادية، وذلك ما أشار إليه لاحقاً عالم الحاسوب أندرونج والذي أكد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحل محل العديد من الوظائف، ولابد من التسخير الفعال لهذه التكنولوجيا حتى تحقق الفوائد المرجوة، ولئن كان ديكارت قد أثار بطرحه قضية العقل والجسد موجة من التفكير حول الآلات، عندما ذكر أن التفكير علامة الوجود، إلا أنه شخصياً كان يعتقد أن التفكير مرتبط بالوعي البشري، وهو شيء يصعب على الآلات تحقيقه، حيث اعتبر أن الآلات يمكن أن تحاكي التفكير، لكن لا يمكن أن تمتلك الوعي، وعلى ذات المنوال سار الفيلسوف الكبير مارتن هايدجر الذي ناقش الطبيعة البشرية مقابل الطبيعة الآلية، واعتبر أن التفكير الإنساني مرتبط بالتجربة الوجودية، وهو شيء يصعب على الآلات الوصول إليه، أما الفيلسوف الأمريكي المعاصر جون سيرل، وهو أستاذٌ في فلسفة العقل واللغة، فقد قدم تجربة «الغرفة الصينية» لإظهار أنه على الرغم من أن الآلات يمكن أن تنتج ردود أفعال صحيحة، مثل المحادثة، فإن ذلك لا يعني أنها تفهم ما تقوم به، وبهذا، فهو يؤكد أن الآلات لا يمكن أن تفكر كما يفكر البشر.

مهمة

وبالمقابل فإن عدداً من المفكرين والعلماء قد أكدوا إمكانية أن يصبح الروبوت كائناً مفكراً وفق ظروف وشروط معينة مرتبطة بتقدم أكبر في مجال العلوم والذكاء الاصطناعي، حيث أشار الفيلسوف والكاتب والعالم الإدراكي الأمريكي دانيال دينييت إلى أن بعض الآلات، مثل الروبوتات، يمكن أن تظهر سلوكيات تُعتبر «تفكيراً»، حيث تحل الألغاز وتحل المشكلات، ما يثير تساؤلات حول طبيعة الوعي والتفكير، بينما لفت الفيلسوف السويدي نيك بوستروم إلى إمكانية أن تصل الآلات إلى مستوى الذكاء البشري ما يسمح لها بالتفكير واتخاذ القرارات بشكل مستقل، واشترط بأن ذلك يحتاج إلى تطوير ذكاء اصطناعي متقدم، حيث إن بوستروم كان قد درس الظروف التي قد تؤدي إلى تطوير ذكاء اصطناعي عام يمكن أن يتجاوز الذكاء البشري، ما قد يسمح للآلات باتخاذ القرارات بدلاً من البشر، فيما تنبأ المخترع الأمريكي ومدير الهندسة في شركة جوجل والكاتب في مجال الخيال العلمي راي كورزويل، وهو صاحب نظريات «التفرد التكنولوجي»، بأن التطورات في الذكاء الاصطناعي ستؤدي إلى ظهور آلات ذكية تتفوق على البشر في العديد من المجالات، وفي ذات الوقت حذر العالم الأمريكي إليازر لودوكوفسكي من خطورة الذكاء الاصطناعي، ومن أن الآلات المتطورة ربما قد تتحكم في مصير البشر إذا لم يتم التعامل معها بحذر.

فتوحات

ولئن كان بعض الفلاسفة والعلماء الذين لم يعاصروا التطور الكبير قد توقعوا مكانة كبيرة للآلات، إلى جانب المعاصرين، فإن هناك فتوحات كبيرة تراهن على أن تحرز الآلات تقدماً واسعاً من خلال التطور الكبير على مستوى الذكاء الاصطناعي، ففي السنوات الماضية كان بعض من الخبراء قد كشفوا عن اختراق ضخم من شأنه تعليم الروبوتات التفكير تماماً مثل البشر، حيث قارن باحثو علم النفس والأعصاب من جامعة جلاسكو الاسكتلندية في عام 2021، عمليات التعلم وكيفية تحليل الوجوه بين البشر والروبوت، واستعانوا في دراستهم الجديدة بنماذج ثلاثية الأبعاد، وخرائط تُعرف باسم «الشبكات العصبية العميقة»، في محاولة لإنشاء ذكاء اصطناعي يشبه عقلية الإنسان، وتُعد تقنية الشبكات العصبية العميقة أفضل نموذج للتعرف إلى الوجه، إذ تحقق أو تتجاوز الأداء البشري في بعض المهام، وعلى الرغم من نجاحها النسبي، يوجد العديد من النقاط الشائكة والأخطاء التقنية التي تحول دون إتمام المشروع، واستخدم الباحثون عدداً من الوجوه عشوائياً، وطلبوا من بعض الأشخاص تقييم تشابهها بأربع هويات مألوفة، ثم استخدموا هذه المعلومات لاختبار ما إذا كانت الروبوتات توصلت إلى نفس الاستنتاجات، أو استخدمت المعلومات نفسها مثل البشر في عملية اتخاذ القرار. واتضح لهم في النهاية أن الذكاء الاصطناعي والبشر اعتمدوا على معلومات مختلفة في تحليل الوجوه، وكان البروفيسور فيليب شينز، قد ذكر أن من الصعب للغاية جعل الروبوتات تفكر مثل البشر، وعلى الرغم من ذلك فهو يأمل في أن يمهد الجهد المبذول في هذا الاتجاه للوصول إلى تقنية ذكاء اصطناعي أكثر موثوقية، تتصرف مثل البشر وتقلل الأخطاء التي لا يمكن التنبؤ بها.

بين عقلين

وفي هذا السياق فإن عدداً من العلماء وضعوا مقارنة بين العقل البشري والذي تمتلكه الآلة أو الروبوت، حيث يتكون العقل الإلكتروني عادةً من شرائح سليكونية وأجزاء إلكترونية أخرى يتم توصيلها مع بعضها لتشكل حاسوباً صغيراً ومن ثم فلا يكون لها القدرة على التفكير الابتكاري أو المستقل مثل العقل البشري، بل تبقى مجرد تابع يطيع الأوامر التي يصدرها إليه الإنسان الذي يمتلك عقلاً معقداً في تكوينه، ومن هذه النقطة فإن الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي ليس في إمكانه أن يمتلك وعياً ذاتياً حقيقياً بنفس الطريقة التي يمتلكها البشر على الرغم من أن بعض الأنظمة مثل الشبكات العصبية الاصطناعية والروبوتات الذكية قد تظهر سلوكيات معقدة، فإن هذه الأنظمة لا تشعر بالألم أو الفرح أو أي من المشاعر الإنسانية، هذه الأنظمة قد تقوم ببساطة بتفسير البيانات، وإجراء الحسابات وفقاً لخوارزميات معينة، دون أي إحساس بالوجود أو الذات.

وذلك ما يؤكده أحد الخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي في الدولة محمد بلولة والذي أوضح ل«الخليج»، أن الروبوت آلة مبرمجة، لكن عندما يتم تزويده بالذكاء الاصطناعي، يصبح قادراً على محاكاة بعض جوانب التفكير البشري، وهذا التفكير يتم عبر تحليل كميات هائلة من البيانات، والتعرف إلى الأنماط، واستخدام هذه الأنماط لاتخاذ قرارات أو توليد استجابات تختلف عن الروبوتات المبرمجة فقط، حيث إن الذكاء الاصطناعي التوليدي يستطيع تحليل المعلومات وتقديم حجج بناءً على البيانات التي تدرب عليها، كما يمكنه توليد نصوص تبدو وكأنها تعبر عن رأي.

التجربة الإنسانية

وأشار بلولة إلى أن التفكير الفلسفي يحتاج إلى تجربة إنسانية تتضمن التأمل في الوجود، والمعنى، والقيم، وذلك يتطلب مستوى من الوعي والتجربة الإنسانية التي لا يمتلكها الذكاء الاصطناعي حالياً، فهو الآن يستطيع تحليل النصوص الفلسفية وتقديم ملخصات وتوليد نصوص بأسلوب فلسفي، لكنه يفتقر إلى القدرة على التساؤل الوجودي الحقيقي والشعور بالدهشة أو الشك الذي يدفع إلى التفكير الفلسفي العميق، حيث إن هذه العملية تظل مرتبطة بالوعي والتجربة الإنسانية في الوقت الحالي.

وذكر بلولة أن مع تطور تقنيات التعلم العميق والنماذج اللغوية المتقدمة، أصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على توليد أفكار مترابطة وطرح رؤى قد تبدو فلسفية ويمكنه تقليد الفكر الفلسفي وطرح تساؤلات وجودية، لكنه الآن لا يشعر ولا يعاني ولا يمتلك موقفاً شخصياً، لذا فإن تفكيره هو مجرد محاكاة للمنطق الإنساني أكثر من كونه نتاجاً ذاتياً.

ولفت بلولة إلى أنه في الآونة الأخيرة، وبعد النقلة النوعية التي أحدثها الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأنا نشهد استثمارات بمبالغ كبيرة جداً في مجال الذكاء الاصطناعي والمعالجات الخاصة به، ولذلك ربما خلال فترة زمنية قصيرة جداً يتغلب الذكاء الاصطناعي على البشر في أنماط التفكير الفلسفي إذا تم تغذيته بالتجارب البشرية وعندما يصبح هذا الذكاء قادراً على استخدام تجاربه الشخصية مع المستخدمين في طور التزايد الكبير لأعداد المستخدمين، أي عندما تصبح له تجربته الخاصة. وعلى الرغم من الدفع بتلك الفرضية حول إمكانية أن يصبح الروبوت، بفضل التطور في الذكاء الاصطناعي، قادراً على التصدي لمهمة التفكير، فإن بلولة يطرح السؤال الآتي: هل سوف يؤثر الإنسان في نتائج التفكير الفلسفي للذكاء الاصطناعي مستقبلاً؟ وكيف يمكن معرفة أن هذه النتائج نابعة من التفكير الفلسفي للذكاء الاصطناعي من دون تدخل بشري؟، ويبدو أن بلولة هو الآخر يرهن عملية ذلك التطور الذي تصبح من خلاله الروبوتات قادرة على التفكير للمستقبل، مع ميل للتشكيل في أن ينفرد الروبوت بالتفكير الفلسفي من دون تدخل إنساني.

حوار

شغلت الروبوتات المفكرة العالم منذ القدم، وتم توظيفها في الأدب والسينما وكتب الأطفال، حيث ظهرت روبوتات في بطولة أعمال سينمائية إلى درجة أن هناك أفلاماً تحدثت عن صراع سينشأ بين البشر والروبوتات المتطورة، وكذلك فعلت روايات الخيال والقصص المصورة للصغار، وكانت تلك الفكرة مادة خصبة للأدب، وكذلك على مستوى توقعات الفلاسفة، الأمر الذي هيأ البشرية لظهور تلك الكائنات الآلية غير البشرية القادرة على التفكير البسيط أو المعقد، ولئن اختلف الفلاسفة والعلماء حول إمكانية أن تصبح الروبوتات مفكرة سواء في الماضي أو في الوقت الراهن الذي اتسم بالتطور التقني والرقمي الكبير، فيا ترى ما هو رأي الذكاء الاصطناعي نفسه عبر تطبيقاته في هذه القضية من خلال حوارية قصيرة أجريناها مع واحد من تلك التطبيقات، للإجابة عن سؤال: هل بإمكان الروبوت المزود بالذكاء الاصطناعي أن يقوم بمهمة التفكير العادي أو الفلسفي؟، فكان الرد هو أن الروبوتات، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، ليس لديها مشاعر أو وعي مثل البشر يمكنها معالجة المعلومات وحل المشكلات بناءً على البيانات التي تم تدريبها عليها، لكنها لا تفكر أو تشعر بالطريقة التي يفعلها البشر، حيث إن البرامج تعمل على تنفيذ مهام محددة، وتستند إلى الخوارزميات والبيانات وليس إلى التفكير العاطفي أو الوعي الذاتي، ولفت إلى أن التفكير الفلسفي يتطلب التحليل العميق، الاستدلال المنطقي، وفهم المعاني المعقدة، فالذكاء الاصطناعي في إمكانه معالجة مواضيع فلسفية، والتقليد بأسلوب التفكير الفلسفي من خلال تحليل النصوص الفكرية وإنتاج استنتاجات مشابهة، غير أن غياب الوعي الذاتي والقدرة على الشعور والقدرة على التأمل في الوجود، كل ذلك يجعل التفكير الفلسفي الحقيقي بعيد المنال، إذ إن الروبوتات تفتقر إلى العمق والوعي الضروريين للفلسفة الفعلية.

في الانتظار

على الرغم من غلبة لغة التشكيك في أن تصبح للآلات والروبوتات قدرة على التفكير في يوم ما، لكن الترويج لهذه القصة التي هي أشبه بالحكايات الأسطورية يجعلها قريبة من المنطق، ليظل البشر في انتظار الروبوتات المفكرة، ربما ليس على طريقة «في انتظار جودو»، رائعة صمويل بيكيت، والواقع أن الكثير من الأحلام باختراعات كبيرة كان ينظر لمدى فاعليتها وجدواها بذات عين الريبة في أزمنة مضت، فقصة الطيران بدأت من حلم الإنسان في الطيران، وهكذا، لذلك يبدو أن الباب مفتوح للكثير من المفاجآت الجديدة مع التطور المتلاحق للعلوم والتكنولوجيا أو كما يقول كينيث روغوف أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد: «ذات يوم، سوف تصبح الآلات المفكرة متطورة إلى الحد الذي يجعلها قادرة على اختراع آلات أخرى من دون أي تدخل بشري».

رهان وعوائق

يبدو أن كل العلماء والفلاسفة الذين أشاروا إلى إمكانية أن تصبح الآلات والروبوتات مفكرة، يراهنون على المستقبل، وعلى أن يحدث تطور أكبر مما هو موجود في مجال الذكاء الاصطناعي، وإلى تلك اللحظة فإن الواقع يشير إلى عدم إمكانية أن تكون الآلات قادرة على التفكير البشري بالإمكانات الحالية، ولعل ذلك ما ذهب إليه أنطونيو كازيللي أستاذ علم الاجتماع بتليكوم باريس، كلية الاتصالات اللاسلكية بباريس، الذي أكد أن المراهنة على مقدرة الروبوت في التفكير تنطوي على خدعة كبيرة، وذلك في كتابه الشهير «في انتظار الروبوت... الأيادي الخفية وراء العمل الرقمي»، والذي يتناول كواليس التطور الهائل في عالم الذكاء الاصطناعي ومدى تأثيره في أشكال العمل المختلفة، فهو يرى أن الذكاء الاصطناعي لا يقوم بمهمة الإجابات والردود وصناعة النصوص وغير ذلك من مهام متقدمة تلقاء نفسه، بل بوساطة عملية تغذية معلومات يقوم بها عدد كبير من العمال الذهنيين عبر خيوط غير مرئية نحو العمل غير الرسمي أو في ظروف مجحفة.

ويشير كازيللي إلى أن الانبهار بالذكاء الاصطناعي والروبوت لا يعكس إلا تزايد تهميش العمل البشري، إذ إن أسطورة إحلال التكنولوجيا الحديثة محل العمل البشري تعني تراجع صورة العمل النمطية والوظائف الرسمية واستبدالها بجيش غير مرئي من الأشخاص، ويرى كازيللي أن فكرة انتظار الروبوت هي أشبه بترقب ما لن يتحقق أبداً، وإلى جانب ما ذكره الرجل في الكتاب، فهو كذلك يشير إلى موانع أيديولوجية تحول دون فكرة تطوير الآلات بشكل كبير، ففي ظل الرأسمالية، تصبح الأتمتة الكاملة واستخدام الروبوتات على نطاق واسع أمراً مستحيلاً لأنه سيعني زوال اقتصاد السوق والمال ورأس المال والأرباح، فالبديل الأكثر احتمالاً في ظل الرأسمالية هو على وجه التحديد المدة الطويلة للكساد الحالي، مع تطور أتمتة جزئية واستخدام هامشي للروبوت، وكلاهما يكون مصحوباً بقدرة فائقة من الإنتاج المفرط على نطاق واسع، مع فائض في إنتاج السلع، إلى جانب البطالة الكبيرة، وضغوط واسعة النطاق لاستخراج المزيد والمزيد من فائض القيمة من عدد أيام العمل التي تميل إلى الانخفاض.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"