يتلقى الإنسان نصف جيناته من والدته والنصف الآخر من والده، وبالتالي فهو يرث طفرة جينية من أحد الوالدين أو كليهما، وتتكون الجينات من الحمض النووي الذي يحتوي على تعليمات لعمل الخلية والخصائص التي تميز البشر عن بعضهم، وتنجم الاضطرابات الجينية عندما تؤثر طفرة أو تغيير في الجينات لدى الجنين، ما يزيد من خطر الإصابة بمرض وراثي، تظهر أعراض بعض منها عند الولادة، بينما يتطور البعض الآخر بمرور الوقت، وفي السطور القادمة يسلط الخبراء الضوء على ثلاثة من المشكلات المرضية الناجمة عن الخلل الجيني وأهم مسبباتها وطرق تشخيصها وإدارتها.
يقول د. وسام السقاف، استشاري أمراض الدم، إن الأنيميا المنجلية هي اضطراب وراثي يؤثر في شكل ووظيفة خلايا الدم الحمراء، ففي الحالة الطبيعية، تكون هذه الخلايا دائرية ومرنة، ما يسمح لها بالمرور بسلاسة في الأوعية الدموية الدقيقة، أما عند الإصابة فتأخذ الخلايا شكل المنجل أو الهلال، ما يجعلها صلبة وغير مرنة، وسهلة الانكسار، وتؤدي هذه الحالة إلى نقص في عدد خلايا الدم السليمة، وينجم عنها فقر الدم المزمن، كما يمكن أن تسد هذه الخلايا غير الطبيعية الأوعية الدموية، مسببة نوبات ألم حادة ومضاعفات خطيرة للأعضاء الحيوية مثل الرئتين والكلى والدماغ.
ويضيف: الأنيميا المنجلية تصيب الأشخاص عندما يرثون الجين المسبب للمرض من كلا الوالدين، ومن يرث نسخة واحدة فقط من الجين، يُعرف بأنه حامل للمرض، ولا يعاني المريض أعراضاً في أغلب الحالات، وتعتبر هذه المشكلة من الأمراض الأكثر شيوعاً في بعض المجموعات العرقية، مثل الأشخاص من أصول إفريقية، أو دول البحر المتوسط، أو الشرق الأوسط، أو الهند.
يوضح د. السقاف أن أعراض الأنيميا المنجلية تشمل نوبات ألم مفاجئة وشديدة تُعرف بالأزمات المنجلية، وتحدث بسبب انسداد الأوعية الدموية، كما يعاني المرضى تعباً دائماً نتيجة فقر الدم المزمن، إضافة إلى اصفرار الجلد والعينين، تورم اليدين والقدمين، تأخر في النمو، والتهابات متكررة.
ويتابع: إن تشخيص الأنيميا المنجلية يعتمد على عدة فحوص، تبدأ عادة بتحليل الدم الكامل. وفي بعض الحالات، يُستخدم الفحص الجيني لتأكيد التشخيص، وخاصة إذا كان هناك تاريخ عائلي، كما تُجري بعض الدول فحصاً إلزامياً للمواليد الجدد لاكتشاف المرض مبكراً.
يلفت د. السقاف إلى أن الأنيميا المنجلية تتسبب في العديد من المضاعفات، بعضها يظهر بشكل حاد، كنوبات الألم الشديدة، ومتلازمة الصدر الحادة، وهي حالة خطيرة تشبه الالتهاب الرئوي وتسبب صعوبة في التنفس، والسكتة الدماغية، خصوصاً لدى الأطفال، إضافة إلى الالتهابات المتكررة بسبب ضعف وظيفة الطحال.
ويضيف: أما المضاعفات الأخرى فتكون مزمنة، وتشمل تلف الكلى، مشاكل في العين قد تصل إلى فقدان البصر، تقرحات مزمنة في الساقين، هشاشة العظام، والضعف العام المزمن.
يشير د. السقاف إلى أن بعض حالات الأنيميا المنجلية لا يوجد لها علاج نهائي حتى الآن، إلا أن هناك وسائل فعالة للتقليل من الأعراض وتحسين جودة الحياة، ومن بينها دواء. في الحالات الشديدة، يمكن اللجوء إلى نقل دم منتظم لتقليل خطر المضاعفات مثل السكتة الدماغية، وتعتبر زراعة نخاع العظم الخيار العلاجي الوحيد الذي يمكن أن يحقق الشفاء، لكنها تتطلب متبرعاً مطابقاً وغالباً ما تُجرى في عمر مبكر.
ويضيف: الوقاية من الأنيميا المنجلية تبدأ من الوعي والفحص الوراثي، ويُنصح بشدة بإجراء فحص ما قبل الزواج، وخصوصاً في المناطق التي ينتشر فيها المرض، كما يساهم فحص المواليد الجدد في الكشف المبكر وتقديم الرعاية الصحية المناسبة قبل ظهور المضاعفات، وتجنب المحفزات التي قد تؤدي إلى نوبات الألم، مثل الجفاف، البرد الشديد، والضغط النفسي، مع الالتزام بالمتابعة الطبية.
الضمور العضلي
يبين د. أحمد دعبيس، أخصائي طب الأعصاب، أن الضمور أو الحثل العضلي مجموعة من الاضطرابات الوراثية التي تسبب ضعفاً تدريجياً في العضلات الحركية وفقدان كتلتها، والسقوط المتكرر وتقلصات عضلية وتشوهات هيكلية، كما يمكن أن يصيب الجهاز التنفسي والقلب، وهناك أكثر من 30 نوعاً، ويعتبر الضمور العضلي الدوشيني الأكثر شيوعاً، ويصيب الأطفال الذكور بشكل أكبر بمعدل 1 من كل 5000 مولود، أما ضمور عضلة بيكر فهو مشابه لدوشين ولكن أقل حدة ويتطور أبطأ. وهناك أنواع أخرى مثل الضمور العضلي التوتري والضمور الطرفي وضمور الوجه والكتف والعضد.
يلفت د.دعيبس إلى أن الضمور العضلي يحدث نتيجة طفرات جينية تؤثر في البروتينات الضرورية لوظيفة العضلات، ما يؤدي إلى تدهور في الأنسجة العضلية، ويمكن أن تكون هذه الطفرات موروثة من الوالدين أو تحدث بشكل تلقائي، ويتم التشخيص عن طريق الكشف السريري بواسطة الطبيب المختص وعمل الفحوص اللازمة من اختبارات الدم للكشف عن ارتفاع مستوى الكرياتين كيناز، وهو علامة على تلف العضلات، والاختبارات الجينية للكشف عن الطفرات وتخطيط العضلات لتقييم نشاطها وخزعة العضلات لتحليل الأنسجة العضلية.
ويتابع: يمكن إجراء اختبارات أثناء الحمل للكشف عن الضمور العضلي في الجنين، وخاصة عند وجود تاريخ عائلي للمرض، وتشمل الفحوص أخذ عينة من نسيج المشيمة بعد الأسبوع الحادي عشر من الحمل لتحليل الطفرات الجينية أو يتم جمع عينة من السائل الأمنيوسي بعد الأسبوع الخامس عشر لفحص التشوهات، ويعتبر تحليل الحمض النووي للجنين من دم الأم من الطرق الحديثة محدودة التدخل أثناء الحمل.
ويذكر د. دعيبس أن الضمور العضلي يمكن أن يؤدي إلى عدة مضاعفات مع تقدم المرض، ومن أبرزها: احتياج بعض المرضى إلى الكراسي المتحركة أو الأجهزة المساعدة نتيجة فقدان القدرة على الحركة أو مشاكل التنفس الناجمة عن ضعف عضلات الصدر أو المشاكل القلبية، أو تشوهات هيكلية مثل انحناء العمود الفقري أو صعوبة في البلع، كما يسبب عدم الراحة وآلام العضلات والإرهاق وانخفاض القدرة على التحمل.
ويؤكد على أن الضمور العضلي لا يوجد له علاج نهائي، إلا أن هناك بعض الطرق الطبية التي يمكن أن تساهم في إدارة الأعراض وتحسين جودة الحياة، مثل: العلاج الطبيعي الذي يساعد في الحفاظ على قوة العضلات ومرونتها، والعلاج الوظيفي الذي يساعد في القدرة على ممارسة الأنشطة اليومية والمكملات الغذائية مثل الكرياتين، بالإضافة إلى الأجهزة المساعدة، كالكراسي المتحركة والدعامات وأجهزة التنفس والتدخلات الجراحية التي تكون ضرورية لتصحيح الجنف أو مشاكل القلب، وكذلك الأدوية التي تبطئ تدهور العضلات، والعقاقير الحديثة التي تقلل الالتهابات العضلية، أو العلاج الجيني عن طريق التنقيط الوريدي.
متلازمة داون
يوضح د.ضياء الدين إبراهيم، أخصائي طب الأطفال: متلازمة داون، أو المعروفة باسم (التثلث الصبغي 21) هي حالة وراثية تحدث نتيجة وجود نسخة إضافية من الكروموسوم 21. ما يؤثر على النمو البدني والمعرفي بدرجات متفاوتة، وتشمل السمات الشائعة الإعاقة الذهنية الخفيفة إلى المتوسطة، وملامح الوجه المميزة مثل: انحناء العينين للأعلى وتسطح جسر الأنف، وضعف توتر العضلات، وفي بعض الحالات، عيوب خلقية في القلب، مع ذلك، يختلف كل طفل عن الآخر، ويعيش الكثيرون حياةً مليئةً بالحيوية والنشاط مع الدعم والتشجيع المناسبين.
ويضيف: تعتبر متلازمة داون ظاهرة كروموسومية عشوائية تحدث عند الحمل، ويعتبر عامل الخطر الوحيد المعروف هو عمر الأم، وخاصةً إذا تجاوزت سن الخامسة والثلاثين، إلا أن بعض الأطفال يمكن أن يولدوا لأمهات أصغر سناً، ويتم تأكيد التشخيص من خلال النمط النووي، وهو تحليل كروموسومي يُجرى قبل الولادة أو بعدها.
يشير د.ضياء الدين إلى أن الأطفال المصابين بمتلازمة داون يواجهون بعض التحديات الطبية، مثل عيوب القلب الخلقية، ومشاكل الغدة الدرقية، وفقدان السمع، أو تأخر النمو الحركي، إلا أن التدخل المبكر يُمكن أن يُحدث فرقاً كبيراً، وخاصة عندما تكون الرعاية متعددة التخصصات، مثل: أطباء الأطفال، والقلبية، وأخصائيي النطق والمعالجة المهنية، والمعلمين، كونهم يلعبون دوراً في دعم نمو الطفل، والتعليم الداعم.
فحص الحمض النووي.. اختبار قبل الولادة
يُشكل فحص الحمض النووي للجنين بدون تدخل جراحي (NIPT)، أهم الاختبارات الحديثة التي يتم إجراؤها قبل الولادة ليوفر معلومات دقيقة حول صحة الجنين أثناء التكوين، ويتم عادة في حوالي الأسبوع التاسع أو العاشر وحتى في الثلث الثاني من الحمل، للكشف عن الاضطرابات الوراثية أو الكروموسومية، وتحديد المخاطر المحتملة للإصابة بالتشوهات الجينية المحتملة، حيث تُستخدم أجزاء صغيرة من الحمض النووي للجنين التي توجد في دم الأم لفحص الكروموسومات وتحديد وجود أي اختلافات غير طبيعية.
يوصى بفحص الحمض النووي للجنين بدون تدخل جراحي للحوامل في الحالات التي يكون فيها لدى أحد الوالدين تاريخ عائلي للإصابة بخلل جيني أو لديهم تاريخ من الإجهاض المتكرر، ويعتبر من الاختبارات الدقيقة الآمنة لكل من الأم والجنين، ولا يتسبب في أي مخاطر مثل الإجهاض، بخلاف الاختبارات الغازية مثل أخذ عينة من الزغابات المشيمية أو البزل السلي.
يساهم فحص الحمض النووي للجنين بدون تدخل جراحي في الكشف عن اضطرابات كروموسومية مثل متلازمة داون (ثلاثي الصبغي 21)، ومتلازمة إدواردز (ثلاثي الصبغي 18)، ومتلازمة باتو (ثلاثي الصبغي 13)، بالإضافة إلى بعض الاضطرابات الجينية الأخرى، ويتم اعتماده كبديل عن الاختبارات الأكثر تدخلاً مثل: بزل السائل الأمنيوسي أو أخذ عينة من الزغابات المشيمية إذا كانت هناك حاجة إلى ذلك، خاصة إذا كانت نتائج الفحص تشير إلى وجود خطر منخفض للإصابة باضطرابات جينية أو كروموسومية.