خميس آل علي*
في سبتمبر/ أيلول 1980، عقب سقوط نظام الشاه في إيران وقيام الجمهورية الإسلامية، قررت جمهورية العراق بقيادة الرئيس صدام حسين وحزب البعث، آنذاك، شنّ هجوم عسكري واسع النطاق على إيران، بهدف استغلال حالة الفوضى والضعف التي أعقبت الثورة، وتحقيق مكاسب حدودية، ومنع تصدير الثورة وأيديولوجيا «ولاية الفقيه» إلى العراق، الجار الأهم عقائدياً لإيران. وقد ظن صدام أن الحرب ستكون خاطفة وستنتهي في غضون أسابيع، وأن غاياته ستكون سهلة المنال.
ولكن الواقع كان مغايراً للتوقعات، فقد امتدت «حرب الخليج الأولى» تلك ثماني سنوات، وأسفرت عن أكثر من مليون قتيل وجريح من الطرفين، وأعداد ضخمة من الأسرى واللاجئين والمفقودين. وانتُهجت فيها أبشع التكتيكات العسكرية، مثل استخدام الأسلحة الكيميائية، والصواريخ الباليستية، وهجوم الموجات البشرية، واستهداف المدن والتجمعات الحضرية وناقلات النفط، فماذا كانت النتيجة النهائية؟ فشِل الطرفان في تحقيق أهدافهما من الحرب، وعادا إلى طاولة التفاوض والأُطر الدولية الحاكمة، ولكن في مشهد مروّع سالت فيه كثير من الدماء، وذهبت هباءً منثوراً ثمناً لقرارات وحسابات سياسية خاطئة.
وتكرر المشهد بعد عقد من الزمن في «حرب الخليج الثانية»، عندما غزا العراق الكويت في عام 1990، ليجد نفسه في مواجهة تحالف دولي ضخم دمَّر القدرات العسكرية للبلاد، وقوّض أركان نظامها، ثم زجّ بها في حصار اقتصادي مُحكم دام أكثر من عشر سنوات، دفع ثمنه الشعب العراقي، مرة أخرى، الذي عانى الأمرَّين من ويلات تغليب الخيارات العسكرية على الحلول الدبلوماسية في أوقات الأزمات.
وفي عام 2003 قررت الولايات المتحدة الأمريكية، بقيادة الرئيس جورج بوش الابن، اجتياح العراق، فيما عُرف باسم «حرب الخليج الثالثة»، وذلك بحجّة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين، وبناء «دولة ديمقراطية في الشرق الأوسط». ولم تختلف نتائج هذه الحرب عن سابقتَيها، إذ دخلت البلاد في حالة من الفوضى والعنف الطائفي، وظهرت تنظيمات متطرفة أقضّت مضجع البلاد، مثل تنظيمَي «القاعدة» ولاحقاً «داعش»، وبرزت كثير من المشكلات والاضطرابات التي تمخضت جميعها عن سقوط النظام العراقي.
فما الذي نجم في المحصلة عن هذه الحروب الثلاث التي شهدتها منطقة الخليج العربي؟ لم ينجم عنها، في حقيقة الأمر، إلا إثبات أن اللجوء إلى السلاح بدل الدبلوماسية، لم يكن يوماً سبيلاً إلى تحقيق الأمن والاستقرار، وأنه كان من الممكن تجنب الكثير من المآسي والأزمات والاضطرابات التي عانتها هذه المنطقة. واليوم، ونحن نشهد ما يمكننا تسميته «حرباً خليجية رابعة» بين إيران وإسرائيل، تفرض علينا الذاكرة التاريخية أن نستحضر الدروس التي تعلّمناها من الماضي، وألّا نُلدغ من الجُحر نفسه مرة رابعة، ونؤكد أنه لا منتصر في حالة التصعيد الخطِرة هذه.
فإيران، بما تمثله من ثقل جغرافي واستراتيجي، يُعدّ بقاء نظام سياسي ومركزي فيها، يضبط الأوضاع ويحافظ على الأمن، ضرورة إقليمية ودولية. ومن هذا المنطلق نقول إن أي اعتداء على سيادتها أمر مُدان ومستنكر، ويجب أن ينتهي فوراً. ومن هنا جاء موقف دولة الإمارات العربية المتحدة، الذي عبّر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بإعلانه التضامن مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وشعبها في هذه الظروف الحرجة، في موقف يؤكد ثبات النهج الإماراتي الداعي إلى احترام السيادة الوطنية، ورفض التدخلات العسكرية، والعمل من أجل استقرار المنطقة بعيداً عن منطق الانتقام وردود الأفعال المتسلسلة.
والرسالة الإماراتية في هذا السياق واضحة، مفادها أن أمن الخليج العربي، واستقرار الشرق الأوسط لا يتحققان بخوض سباق تسلح، أو قصف المدن والمنشآت، بل بالاحترام المتبادل، والوساطات المسؤولة، والمفاوضات الجادة التي ترجّح منطق العقل على أي منطق آخر.
وقد دفعت منطقتنا ما يكفي من أثمان الصراعات والحروب، ولعل العودة إلى منطق القوة في هذه اللحظة الحساسة، ليس إلا تكراراً مأساوياً لخطايا الماضي المدمرة التي لا تزال آثارها تنزف في العراق وسوريا واليمن ولبنان. وباختصار، إن استقرار إيران، شأنه شأن استقرار أي دولة في المنطقة، هو مصلحة جماعية، وأيُّ مسٍّ فيه يعني جرّ المنطقة كلها إلى دائرة من الفوضى غير المحسوبة.
وفي الختام، تبقى الحقيقة الأهم أن أمن الخليج العربي لا يمكن أن يُبنى على أنقاض الحروب، بل على أسس الحوار والتفاهم، والاعتراف المتبادل بالمصالح والخصوصيات. ولعل الجهد الإماراتي اليوم، وهو يسعى إلى خفض التصعيد ووقف تدهور الأوضاع، يمثل بارقة أمل في نفق مظلم، ورسالة واضحة بأن الدبلوماسية، لا الحرب، هي مفتاح المستقبل.
* باحث في شؤون إسرائيل والشرق الأوسط في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية