الاقتصاد المعتل في دولة تائهة

02:07 صباحا
قراءة 4 دقائق
عصام الجردي

بقاء قطاعات حيوية من البنية التحتية الخدمية في يد الدولة اللبنانية كلياً أو جزئياً، ليس وليد حرص محمود على إقامة توازن بين القطاعين العام والخاص لحماية المستهلك في قطاعات منتجة بمقدار ما هو عائد لمصالح غير محمودة
تضغط هيئات أصحاب الأعمال في لبنان سياسياً لتحريك إقرار قانون شراكة القطاعين العام والخاص ، وترى فيه تعويضاً جزئياً لفرص النمو المهدورة منذ 2011 بداية الحرب في سوريا.
في الأساس تحتكر الدولة اللبنانية قطاعات مهمة وحيوية. الكهرباء، المياه، الطيران، والاتصالات بقطاعيها الثابت والمحمول. ولديها حصة مهيمنة في مصالح مستقلة أخرى وشركة انترا للاستثمار القابضة، ومؤسسة التبغ والتنباك «الريجي» وغيرها.

المشكلة المتعددة الأوجه هنا تكمن في معادلة ملتوية «على الطريقة اللبنانية». نظام اقتصادي حر تُبقي الدولة فيه كلياً أو جزئياً على هذه القطاعات لرعاية زبائنية سياسية وفساد مالي وإداري. من الطبيعي والحال هذه، أن تتردى جودة الخدمات وأن تُفتقد الخدمات نفسها أحياناً. فتلجأ الإدارات إلى تقنين إمداداتها منقوصة الجودة والكفاية. كما هو الوضع خصوصاً في الكهرباء والمياه. فيتوجه المواطن إلى خدمات الاقتصاد الموازي لتأمين حاجاته بتكلفة إضافية إلى جانب فاتورة خدمات قطاعات الدولة. ويؤتى على رأس قطاعات خدمات الدولة بإدارات يستقطعها سدنة النظام السياسي ويتوزعون غنائمها. وفي الأغلب الأعم إدارات فاسدة وغير كفية. وحين العكس صحيح، يرضخ الإداريون الأكفاء لمنظومة الفساد، فيصبحون جزءاً منها محميين من المنظومة السياسية الفاسدة.

يتضح أن بقاء قطاعات حيوية من البنية التحتية الخدمية في يد الدولة كلياً أو جزئياً، ليس وليد حرص محمود على إقامة توازن بين القطاعين العام والخاص لحماية المستهلك في قطاعات منتجة لا غنى عنها، أو لغاية رقابة الدولة على أداء مؤسسات تلك القطاعات بمقدار ما هو عائد لمصالح غير محمودة وذميمة لمنظومة الفساد السياسي والمالي. علماً، أن مؤسسات الاقتصاد الموازي في القطاع الخاص التي يستعين بخدماتها المواطن بالأمر الواقع، تستنزفه فاتورة ثانية، ولا تكلف أي نوع من الضريبة أو الرسوم لخزانة دولة عاجزة بكل المعايير. وحصة عجز قطاع الكهرباء الشرعي وحده نحو 30 في المئة من العجز المالي سنوياً المقدر أن يسجل في 2016 أكثر من 4 مليارات دولار أمريكي.

الوجه الآخر للمعادلة نفسها، هو في مشروع قانون شراكة القطاعين العام والخاص الذي لم يقره مجلس النواب المشلول، والعاجز عن انتخاب رئيس للجمهورية منذ ثمانية وعشرين شهراً. المشروع سابق لشغور منصب رئاسة الجمهورية وليس «اختراعاً لبنانياً». لو أُقر يطلق ورشة من شأنها تحريك رساميل محلية ومدخرات وطنية وأجنبية. ويتيح مروحة من الاستثمار بناءً وتشغيلاً وعودة المنشأة إلى الدولة وبناءً وتشغيلاً وتملكاً بعد نهاية العقد. على أهمية المشروع، لكنه يحتاج إلى دولة صلبة وإلى منسوب عالٍ من الشفافية والنزاهة. وهنا وجه المعادلة الثانية المعقّد. لم يسبق للبنان رغم تقادم نظامه الاقتصادي الحر الأول في المنطقة، أن أصدر قانوناً يبيح شراء مؤسسات في القطاع العام، وتحويل حقوق ملكية للشعب إلى مستفيدين بلا رجعة. ورغم شبه اليقين في أن نجاح مشروع الشراكة سيقفل دكاكين الخدمات الكهربائية والمائية وخلافها، وأتاوة الفاتورتين على المواطن في مقابل خدمات تفتقر إلى الجودة والاستدامة، تبقى المخاوف قائمة حيال تنفيذ المشروع بوجود منظومة الفساد السياسي والمالي. خصوصاً أن مشاريع البنى التحتية وتسويق الخدمات هي ملعب بلا حدود لتلك المنظومة.
وتيرة اهتلاك البنى التحتية في لبنان، وافتقارها إلى الصيانة الدورية والطارئة، باتا عبئاً كبيراً معوقاً للاستثمار والنمو منذ منذ 2011. صاحب ذلك تراجع كل المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية. وكان أبرزها تراجع ميزان المدفوعات باطراد في السنة نفسها حتى 2016، وارتفاع البطالة إلى نحو 25 في المئة وإلى زهاء 35 في المئة بين الفئات العمرية الشابة. في صرف الاعتبار عن حجم الدفق الاستثماري الذي قد يصاحب تنفيذ مشروع الشراكة بعد إقراره قانوناً، لكنه يؤذن في تحريك التسليفات المصرفية في اتجاه مشاريع كبيرة على صلة مباشرة بالنمو وبفرص العمل. هذه وظيفة المصارف الرئيسية التي افتقدتها منذ سنوات، وتترك آثارها السلبية في أداء المصارف وأرباحها وتطورها. وهي مطالبة بالوفاء بمعايير بازل 3 ومتطلباتها من أموال خاصة واحتياطات جديدة متنوعة. المصارف متلهفة لإقرار مشروع الشراكة لتخفيف انكشافها على ديون دولة هشة هو مصدر أساسي لتشغيل محفظتها المالية والأرباح. مع ما ينطوي عليه هذا التوظيف من مخاطر وتصنيف ائتماني لا يعكس (حتى اليوم حداً أدنى) ملاءتها المالية وحجم سيولتها بالليرة وبالعملات الأجنبية.
فمن نحو 160 مليار دولار أمريكي ودائع الجهاز المصرفي يحظى القطاع الخاص فقط بنحو 50 ملياراً تسليفات. ويتكفل مصرف لبنان بنحو 30 ملياراً شهادات إيداع تنتج فوائد مجزية لإبقاء هامش أرباح للمصارف في سياسة تحتمل الكثير من التأويل يسميها مصرف لبنان «هندسات مالية». وكثيراً من الالتباس حين يتعلق الأمر بعمليات مقايضة (SWAP) على سندات دين يورو بوند قبل استحقاقها مع الإبقاء على فوائدها بسعر الإصدار الأساسي.

بعيداً من مشروع الشراكة القابل للجدل، سيبقى اقتصاد لبنان معتلاً ما بقيت دولته تائهة بلا مؤسسات ولا حكم قانون.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"