اليباب والخاوون

03:01 صباحا
قراءة دقيقتين
عثمان النمر

الفاشيون على إطلاقهم أياً كانت الرايات التي يرفعونها أو الشعارات التي يتغنون بها، هم أعداء العقل والحياة والحضارة، يبسّطون الحياة في فكرة ثم يؤدلجونها في أفقهم الضيق وتكلسهم الفكري، والأسوأ عندما يحملون السلاح لفرض واقع منقطع عن السياق العصري.
غالبية حركات الإسلام السياسي وأذرعها العسكرية، من الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي وحزب الله والدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية والقاعدة وطالبان و«داعش» وبوكو حرام وغيرها من المسميات المحلية والمناطقية والأممية، فاشية الجوهر والمخبر، لا تملك مشروعاً يخاطب العصر أو يحسن التواصل مع الأصل، تلغي العقل وتصادر حرية التفكير، وتؤمن بعقلية القطيع لتسيير الناس، وبث الذعر والخوف لضمان استمرارها.
ما من مكان تمكنت فيه هذه الأحزاب أو الحركات المسلحة إلا وأحالته إلى خراب ودمار، وجردت الحياة من معناها، وأفقرت الناس وجوعتهم وشردتهم في الأرض ولم تحسن تدبير شأن السياسة والدولة ومعاش الناس وترقية حياتهم، بل تمسكت بالسلاح والقهر حرساً للدين، لكأنه ضد للحياة.
النماذج التي تمثلها هذه الاحزاب والحركات الفاشية ما زالت قريبة من الذاكرة وآثارها ماثلة للعيان في أفغانستان طالبان وإقليم القبائل في شمال غرب باكستان، وفي ليبيا، وأرض شاسعة تمتد من الموصل في العراق إلى الرقة في سوريا يعربد فيها تنظيم «داعش»، وشمال شرق نيجيريا وجواره المتاخم في الكاميرون وتشاد، حيث تفرض بوكو حرام أسوأ شكل من الفاشية الجاهلة.
الحياة لا تعترف بالجنون أو بالدم، فالعقل هو المحرك المدبر للحياة، والغاؤه يعني الجنون والتخبط والتيه والضلال. والدم هو شريان الحياة البشرية وقطع أوردته يعني النزف والموت البارد، فكيف إذا اجتمع الجنون والدم في أرض؟
من أين يأتي المتعصبون والفاشيون والمتطرفون من كل لون وجنس ودين؟ هؤلاء هم صنائع خيال زائف لنموذج تاريخي انقضى بظروفه الموضوعية في إطارها الزماني والمكاني، وهم يفتقرون إلى القدرة على استبصار الواقع العصري بتعقيداته التي تتطلب التطور وإحسان النظر للأخذ من الأصل لمواكبة العصر، ففضلوا لعجزهم الارتكان إلى طوباوية تجاوزها الزمان وعاشوا في نوستالجيا طفولة الحلم.
الأمر لا يتعلق بدين بعينه، بل يجد مولّدات حركة في اليهودية والمسيحية والهندوسية والبوذية والأيديولوجيات القومية والعرقية. ففيما الحياة تمضي قدماً يرتد أناس إلى خيبة الأمل واليأس ويتحول عجزهم عن المواكبة إلى اشمئزاز لعالم لا يفهمونه، يملؤهم بالخوف والذعر، فيتحصنون بالأحلام والارتداد إلى طفولية التفكير، أو العزلة في انتظار الخلاص المتوهم... الخلاص من الحياة أو تخليص الحياة من العقل والدم.
الفشل المزدوج للمشروعين الوطني والقومي أو تفشيلهما في الجغرافيا العربية، قد يشبهان حالة الفشل والأزمة والإحساس بالمأساة الإنسانية والكارثة الحضارية في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى التي ألهمت الشاعر البريطاني توماس ستيرنز اليوت «الأرض اليباب» و«الرجال الجوف»، وألهمت أوروبا بعد الحرب الثانية السوق المشتركة والاتحاد الأوروبي.
التحدي الحقيقي لا يكون بالهروب منه، بل بالارتقاء إلى مستواه بظروفه وشروطه الموضوعية والتفاعل معه لتجاوزه إلى تحديات أكبر، وبذلك تكون الحياة والإضافة إليها، لا الارتداد والنكوص إلى العزلة والطوباوية والخيالات والأوهام الأيديولوجية العاجزة عن الحياة أو تفسيرها.
أليست الأرض العربية خصبة وأكبر من أن تترك بيد الخاوين من الفكر والحياة ليحيلوها إلى أرض يباب بلا ملامح أو شواهد حضارية؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"