الحس التاريخي

03:09 صباحا
قراءة 3 دقائق
عثمان النمر

فظاعات الحروب السابقة في ذاكرة الشعوب الحية أفضل ضمان لدرء الحروب الجديدة وإطفاء نيران النزاعات بالحوار والتفاوض والتحكيم العادل، بل البحث عن المنافع ورعاية المصالح وتعميق العلاقات في إطار التعايش المشترك.
أوروبا التي كانت طوال قرنين مسرحاً لحروب الإمبراطوريات والورود والطوائف والأعراق والإيديولوجيات، استنفدت مخزونها السيئ من العدوانية والنزعة نحو دق طبول الحرب والتهديد بها، بعد أن دفعت في الحرب العالمية الثانية ثمناً بشرياً فادحاً (٨٠ مليون قتيل) ودماراً ماحقاً طال مدنها وقراها وبنيتها التحتية وأساليب عيشها وتراثها العمراني والحضاري.
لم يعد أحد في القارة العجوز الضاجة بالحياة والحرية المتلونة بحيوية الفلسفة والآداب والفنون، يرغب في استرجاع الماضي الدموي، أو منح صوته لنواب في البرلمانات يتسابقون لتأييد إعلان الحرب والتعبئة العامة، كما حدث في الحرب العالمية الأولى، التي أفضت إلى الثانية، ولم يعد مقبولاً التبرير للحرب بادعاء أنها امتداد للسياسة بوجه آخر، مع التشديد على أن قرار الحرب أكبر وأخطر من أن يترك للعسكريين فقط.
لا يدعي أحد أن أوروبا الحديثة خلو من اليمينيين المتطرفين والانفصاليين الذين تحركهم نوازع الحقد التاريخي والإيديولوجيات العرقية والدينية، الذين لا يبالون بالعواقب الكارثية لسياسة التطرف والحشد، لكن الإيجابي في الأمر أن أصوات العقلاء وأصحاب الضمائر الحية والمتنورين أعلى وأحكم وأكثر قدرة على قيادة الرأي العام وتصحيح المسار الوسطي.
هذه العقلية الحداثية والروح التصالحية والنظرة الواسعة نحو المستقبل هي التي دفنت نوازع الحروب ومهدت الأرض الصالحة للاتحاد السياسي والمنافع الاقتصادية المتبادلة، وفتح الحدود وتعميق الانتماء القاري على حساب القطري والقومي والديني والإيديولوجي.
إذا كانت الرواية وثيقة اجتماعية، فمن أجمل ما كتب في الحروب، روايتا «الحرب والسلام» للروسي ليو تولوستوي و«ذهب مع الريح» للأمريكية مارجريت ميتشل، وجوهر الروايتين اللتين مسرح الأولى روسيا أثناء الحرب النابليونية، والثانية الجنوب الأمريكي خلال الحرب الأهلية، ليس قصة حب ناتاشا روستوفا أو سكارليت أوهارا أثناء الحربين، بل النضج الذي ينمو ليصقل الشخصية الضعيفة والساذجة لتقوى ضد الحرب، وضد أن تسمح للأوقات الجنونية الصعبة بأن تطحنها، بل ترتقي بها لتكون على قدر الحدث لإحياء قيم التسامح.
جربت البشرية كل أنواع الحروب وتعلمت من الدرس القاسي أن الحروب مثل الجريمة لا تفيد. والحروب مثل الدورات تبدأ لتنتهي بواقع جديد، فهي تحمل في تضاعيفها وقود استمرارها وفنائه ما يستوجب حتماً توقفها وإلقاء أوزارها. فجنون الدم لن يوصل إلى أي مكان.
لا معنى لاستمرار الحروب الأهلية الدامية في سوريا والعراق وليبيا واليمن إلا الافتقار إلى الحس التاريخي والإنساني والعقل المستبصر للعواقب.
الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى قدم قبل 15 قرناً مانيفيستو ضد الحرب الأهلية أقذر أنواع الحروب، وقال في قصيدته المعلقة:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم

                  وما هو عنها بالحديث المرجم

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة

                   وتضر إذا ضريتموها فتضرم

فتعرككم عرك الرحى بثفالها

                      وتلقح كشافاً ثم تنتج فتتئم

فإذا كان لوردات الحرب في سوريا والعراق وليبيا واليمن لا يقرأون بلغات أخرى ألا يقرأون من تراثهم العربي القديم، والحكمة ضالة المؤمن، فإن عثر عليها فهو أحق بها.


[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"