عادي
«جحيم» في إدلب.. و«صفقات» بين اللاعبين الدوليين

سوريا.. تغيير خرائط الحرب والصراع مفتوح على كل الاحتمالات

02:15 صباحا
قراءة 8 دقائق

شهدت سوريا خلال عام 2019 تطورات دراماتيكية في الأحداث الدائرة على أرضها منذ منتصف مارس/آذار عام2011، أدت في جانب منها إلى تغيير خرائط الحرب في الميدان؛ لكنها بمجملها شكلت امتداداً للأعوام السابقة، وإن تميزت عن تلك الأعوام بسلسلة من الأحداث الكبرى، بعضها يمكن اعتباره انعطافة مهمة، ونقطة تحول في مسار الحرب على الإرهاب؛ مثل: هزيمة تنظيم «داعش» شرقي البلاد؛ وعملية تصفية زعيم التنظيم (أبو بكر البغدادي)، وبعضها الآخر يمكن اعتباره امتداداً لما جرى في عام 2018 من استعادة الدولة السورية للعديد من المناطق، بما في ذلك مناطق في ريفي إدلب وحماة وسط وشمال غربي البلاد، علاوة على دخول الجيش السوري إلى مناطق استراتيجية محاذية للحدود مع تركيا؛ بموجب اتفاق مع القوات الكردية، وبرعاية روسية؛ إثر الغزو التركي لمنطقة شمال شرقي نهر الفرات، مع ظهور بوادر صراع دولي حول السيطرة على النفط السوري هناك. كما شهدت سوريا، على الجانب الآخر، بصيص أمل لا يزال ضعيفاً مع انبثاق اللجنة الدستورية، وعقد أولى اجتماعاتها في جنيف؛ حيث برزت تساؤلات عدة حول ما إذا كانت هذه اللجنة ستفضي إلى تسوية ما للصراع السوري، في وقت ترجح معظم المؤشرات أن التسوية مؤجلة، وأن هذا الصراع لا يزال مفتوحاً على كل الاحتمالات.
بعدما تمكن الجيش السوري من إعلان دمشق وريفها خالية من المسلحين؛ إثر استعادة السيطرة على الغوطة الشرقية ومحيط العاصمة، وقبلها محافظة درعا في عام 2018، انتقل الصراع إلى شمال غربي البلاد؛ حيث لجأ مئات الآلاف من جنوبي البلاد والغوطة الشرقية إلى إدلب وريفها؛ لتصبح المنطقة مكتظة بنحو ثلاثة ملايين نازح، ولتتحول إلى منطقة ملتهبة مع قيام «هيئة تحرير الشام»؛ (جبهة النصرة سابقاً) بالسيطرة على معظم المنطقة، وإعلان الحكومة السورية بأنها لن تتوقف قبل استعادتها؛ لكن إثر تدخل الدول الضامنة ل«مسار أستانا»؛ وهي (روسيا وتركيا وإيران) سادت هدنة هشة في منطقة ما يُسمى «خفض التصعيد»، ثم جرى التوصل في «سوتشي» إلى اتفاق روسي تركي، يقضي بإنشاء «منطقة عازلة» بعمق يراوح بين 15 و20 كم، وانسحاب المسلحين منها بضمانة تركية، وإنشاء نقاط مراقبة تركية إلى جانب تسيير دوريات روسية تركية مشتركة على حدود هذه المنطقة؛ لكن «جبهة النصرة» رفضت تنفيذ هذا الاتفاق، وفشلت تركيا في سحب المسلحين من المنطقة العازلة؛ لينفجر الصراع مجدداُ؛ حيث تمكن الجيش السوري، بدعم قوي من الطيران الروسي، في نهاية المطاف، من استعادة السيطرة على كل مناطق ريف حماة الشمالي، وأجزاء مهمة من ريف إدلب الجنوبي؛ بما في ذلك بلدة خان شيحون الاستراتيجية، التي كانت قد تسببت بتوجيه ضربة من جانب التحالف الدولي بقيادة واشنطن إلى القوات السورية؛ بذريعة قصف البلدة بأسلحة كيماوية. غير أن الصراع على هذه الجبهة لا يزال بعيداً عن الحسم، باعتباره يظل محكوماً بسقف المصالح الروسية التركية أولاً، والتدخلات الدولية ثانياً، مما يدفع للاعتقاد أنه سينتهي إما بتوافقات وتسويات ما وإما بمساومات وصفقات؛ لإخراج المسلحين من المنطقة، أكثر من فرضية الحسم العسكري على الرغم من أن هذه الجبهة تعد ملتهبة.


آخر معاقل «داعش»


ومنذ بداية العام، كانت الاستعدادات قد اكتملت؛ لاستئصال تنظيم «داعش» من آخر معاقله التي كان يسيطر عليها في شرق سوريا؛ بعدما تجمعت كل فلوله الهاربة؛ إثر سقوط معقله الأساسي في الرقة، ولاحقاً في محافظتي درعا والسويداء، وريف دمشق، وأقام شبكة من الأنفاق والتحصينات؛ استعداداً للمعركة الفاصلة. ودارت سلسلة من المعارك الضارية على مدى الأشهر الثلاثة الأولى من العام، شكل المقاتلون الأكراد رأس الحربة فيها بدعم كثيف من قوات التحالف الدولي، لتنتهي هذه المعارك بسقوط آخر معاقله في بلدة الباغوز، وتصفية معظم قياداته، وأسر الآلاف من مقاتليه وعائلاتهم، خصوصاً من المقاتلين الأجانب، وزجهم في سجون قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومخيم «أبو الهول» بريف الحسكة، وبذلك انتهت عملية مسك «داعش» للأرض في جميع الأراضي السورية. وفي صبيحة يوم 23 مارس/آذار، أعلنت «قسد» رسمياً النصر على «داعش»، مشيرة إلى بدء مرحلة جديدة في قتال التنظيم في سوريا، بالتعاون مع التحالف الدولي؛ بهدف القضاء على الوجود العسكري السري للتنظيم ممثلاً بخلاياه النائمة؛ وذلك بعد وقت قصير من إعلانها انتهاء ما يُسمى «دولة الخلافة» المزعومة، وبعد نحو خمس سنوات من القتال ضد التنظيم. وقد لقي ذلك ترحيباً إقليمياً ودولياً، وأعلنت واشنطن أن «هذا الحدث الحاسم في القتال ضد التنظيم؛ يشكل ضربة استراتيجية ساحقة، ويؤكد الالتزام الثابت لشركائنا المحليين والتحالف الدولي في هزيمة داعش»؛ لكن التنظيم لا يزال يشكل تهديداً عالمياً. وقال الرئيس دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو «سنقوم بما يلزم في المنطقة، بما في ذلك هنا في سوريا، وفي أنحاء العالم؛ لضمان القضاء على هذا التهديد». ووصفت رئيسة وزراء بريطاني آنذاك تيريزا ماي هزيمة «داعش» بأنها تشكل «منعطفاً تاريخياً»، ودعت إلى مواصلة المعركة ضد المتشددين. كما أشاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بهزيمة التنظيم، واعتبر أن ذلك «أزال خطراً كبيراً» عن فرنسا.


تغيير خرائط الحرب


استغرق موضوع تغيير شكل خريطة الحرب الدائرة في سوريا أسبوعاً واحداً، فخلال هذا الأسبوع استخدم الرئيس ترامب، ما وصفه «بحكمته العظيمة التي لا تضاهى»، وأمر بسحب الجنود الأمريكيين من شمالي سوريا، وهي ليست المرة الأولى على أية حال، مطلقاً العنان لسلسلة من التطورات، خانت بموجبها واشنطن حلفاءها الأكراد، ومنحت فرصة جديدة لتركيا، وأطماعها العدوانية والتوسعية في احتلال الشمال السوري، والقضاء على المقاتلين الأكراد، ومشروعهم للإدارة الذاتية؛ بذريعة محاربة الإرهاب. وأعلنت واشنطن أنها تستعد لسحب ما تبقى من قواتها في شمال سوريا، الذين يقدر عددهم بنحو ألف جندي؛ بعد أن علمت أن تركيا تستعد لتوسيع عملياتها العسكرية في سوريا. وبرر ترامب خطوة سحب قوات بأنه لا يريد خوض «حروب بلا نهاية»، وذهب إلى حد التماهي مع منطق أنقرة التي تصف الأكراد بالإرهابيين، والبحث عن ذرائع واهية من نوع أن الصراع التركي- الكردي قائم منذ عقود، وأن الأكراد لم يحاربوا مع الولايات المتحدة في النورماندي.. وغيرها. وقد مثلت هذه التصريحات ذروة الإخفاق الكارثي للسياسة الأمريكية في المنطقة والعالم؛ إذ لم يعد بوسع أحد من الحلفاء، بما في ذلك «إسرائيل» الوثوق بواشنطن على هذا الصعيد. فالتحالف مع الأكراد، والضمانات الأمنية التي منحتها لهم واشنطن «بحقهم» في حكم ذاتي شمال شرقي البلاد، جعل من الأمريكيين لاعباً أساسياً في الحل النهائي للصراع السوري؛ لكن إعلان الانسحاب؛ أكد انحسار نفوذ واشنطن على الأحداث السورية، وجعلها عملياً خارج معادلة التسوية السياسية؛ لتفسح المجال أمام الدول الضامنة ل«مسار أستانا»؛ (روسيا وتركيا وإيران) للتقدم؛ لملء الفراغ؛ لكن الأهم أن هذا الانسحاب منح الدولة السورية انتصاراً مهماً؛ حيث أبرم الأكراد، بعد ساعات قليلة، اتفاقاً مع دمشق؛ يقضي بنشر الجيش السوري على طول الحدود الشمالية مع تركيا. وعندما أدركت واشنطن حجم الخطأ الذي سقطت فيه، حاولت التراجع بتصريحات تؤكد أنها لم تتخل عن الأكراد، وأعادت بالفعل جزءاً من القوات التي كانت قد سحبتها إلى العراق؛ لكن هذه المرة للسيطرة على حقول النفط السورية، بعد أن مهدت فعلياً للغزو التركي.


الغزو التركي الثالث


في صبيحة التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بدأ الاجتياح التركي لشمال شرقي سوريا؛ وهو ثالث غزو تركي تتعرض له سوريا بعد عمليتي «درع الفرات» و«غصن الزيتون»؛ وذلك بعد أن حشدت أنقرة عشرات آلاف الجنود إلى جانب مقاتلي الفصائل السورية الموالية لها، بعد دمجهم في إطار موحد أطلقت عليه اسم «الجيش الوطني». وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن الهجوم سيمتد من عين العرب (كوباني) في الغرب إلى الحسكة في الشرق، ويمتد بعمق نحو 30 كيلومتراً في الأراضي السورية؛ بذريعة إقامة «المنطقة الآمنة» التي طالما تحدث عنها، وإعادة توطين ملايين النازحين السوريين فيها. وقد تمكنت القوات التركية وحلفاؤها من احتلال مدينتي رأس العين وتل أبيض إلى جانب عشرات القرى والبلدات الصغيرة على مساحة تقدر ب 1200 كم مربع، وفق ما أعلن الرئيس التركي، في وقت كان الجيش السوري ينتشر في معظم النقاط الاستراتيجية على الحدود الشمالية، بما في ذلك منبج وعين العرب، للمرة الأولى، منذ بدء الأحداث. الخطر الأبرز والمباشر لهذا الغزو يكمن في إمكانية تغيير الطابع الديموغرافي لشرقي الفرات، مع قيام القوات التركية بطرد السكان الأصليين من منازلهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم، وإعلانها في خطوة أولى عن بدء إسكان مليون نازح سوري في مدينتي رأس العين وتل أبيض. ولقد أثار الهجوم احتمال هروب مقاتلي تنظيم «داعش»، وكذلك عائلاتهم، الذين تحتجزهم القوات الكردية التي تستهدفها تركيا. وثمة تقارير عن فرار المئات منهم، ما قد يؤدي إلى عودة ظهور التنظيم المتشدد. وقالت الإدارة الكردية: إن 785 أجنبياً من المنتمين إلى تنظيم «داعش» فروا خلال أسبوع من مخيم عين عيسى؛ لكن المرصد السوري نقل عن مصادر في المخيم قولها: إن نحو مئة شخص فروا. وادعى أردوغان، أن روايات فرار سجناء تنظيم «داعش» «معلومات مضللة» تهدف إلى استفزاز الغرب.
القلق الدولي والمطالبة بوقف الهجوم التركي والمخاوف من فرار مقاتلي «داعش»، كل ذلك فرض ضغوطاً على واشنطن؛ من أجل التحرك؛ للتوصل إلى اتفاق مع أنقرة، يقضي بوقف إطلاق النار في منطقة شرقي الفرات، وقد تم ذلك بالفعل في 17 أكتوبر/تشرين الأول؛ حيث أعلن نائب الرئيس الأمريكي، مايك بنس، في مؤتمر صحفي، عقب اجتماع مع الرئيس التركي، إن الجانبين توصلا لاتفاق يقضي بوقف إطلاق النار شرقي الفرات خلال 24 ساعة، على أن تعمل الولايات المتحدة على تأمين انسحاب مقاتلي «قسد» من منطقة شرقي الفرات إلى عمق 20 ميلاً (30 كم)؛ وذلك خلال ال 120 ساعة القادمة (أي خلال الخمسة أيام القادمة)، مشيراً إلى أن هذا الاتفاق يتضمن رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على تركيا؛ لكن الاتفاق لم ينجح، بطبيعة الحال؛ بذريعة أن المقاتلين الأكراد لم يلتزموا بتنفيذ الانسحاب. وبالتالي فقد حان دور روسيا التي تمكنت في 22 أكتوبر من التوصل إلى اتفاق وصف بأنه تاريخي عقب اجتماع بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، يقضي بانسحاب المقاتلين الأكراد من «المنطقة الآمنة» بضمانات روسية، ونشر الجيش السوري على الحدود الشمالية، والعودة إلى تفعيل «اتفاق أضنة»؛ لحل المشاكل بين أنقرة ودمشق، إلى جانب نقاط مراقبة وتسيير دوريات روسية تركية مشتركة على الحدود.. إلخ. ومع أن الاتفاق الأخير لا يزال صامداً بشكل عام على الرغم من الخروق المتكررة، فإن الاتهامات المتبادلة بين الأكراد وتركيا لا تزال قائمة حول عدم تنفيذ كل طرف منهما للاتفاق.


اغتيال البغدادي


في ليلة 27 أكتوبر الماضي، شنت قوات أمريكية خاصة؛ بناء على معلومات استخبارية وعمليات رصد ومتابعة، غارة على ما وصف بأنه معقل زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي في بلدة باريشا شمالي محافظة إدلب قرب الحدود التركية، وتمكنت من اغتياله مع عدد من أفراد عائلته ومرافقيه. ونشر الجيش الأمريكي اللقطات الأولى للغارة التي قُتل فيها البغدادي، وأظهر مقطع فيديو مشوش جنوداً يطلقون النار على عناصر مسلحة على الأرض أثناء توجههم نحو المجمع الذي كان يختبئ فيه البغدادي قبل أن ينتشر عناصر الجيش الأمريكي على الأرض، ويقتحموا المبنى. وانسحب البغدادي نحو نفق في مقر الإقامة ثم فجر سترة ناسفة كان يرتديها. وبعد انتهاء الهجوم تم تدمير المبنى بالكامل بواسطة المتفجرات. وذكر الجيش الأمريكي أنه تم نقل رفات البغدادي إلى قاعدة عسكرية أمريكية؛ للتحقق من هويته، عبر فحص الحامض النووي (DNA))، وأشير لاحقاً إلى أنه بعد التحقق من هويته تم دفنه في البحر وفق الشريعة الإسلامية في مكان لم يحدد، على غرار ما حدث لزعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن. وبعد ذلك بساعات أعلن الجيش الأمريكي عن اغتيال المتحدث باسم التنظيم أبو الحسن المهاجر في غارة ثانية قرب جرابلس بريف حلب الشمالي. وخلال نحو أسبوع اعترف تنظيم «داعش» بمقتل زعيمه، وأعلن أنه تم اختيار (أبو إبراهيم الهاشمي القرشي) زعيماً جديداً للتنظيم. هكذا أعلن عن طي صفحة البغدادي، وإن لم يمنع ذلك من ظهور فرص جديد لعودة إرهابيي التنظيم، مستفيدين من الاجتياح التركي لشمالي سوريا، خصوصاً مع عودة بعض خلاياه النائمة لتنفيذ عمليات عسكرية، والتحاق أعداد من عناصره بالفصائل السورية الموالية لتركيا؛ لتأمين الحماية لها غير بعيد عن أعين السلطات التركية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"