عادي

«جدة».. غادة متألقة الجمال في قصيدة طاهر زمخشري

03:48 صباحا
قراءة 3 دقائق
الشارقة:عثمان حسن

ولد الشاعر السعودي طاهر عبد الرحمن زمخشري (1906- 1987)، في مكة المكرمة، ويعتبر من الشعراء الروّاد البارزين في السعودية، وكانت له إسهامات مهمة في تجديد القصيدة، بما أنجزه من قصائد ودواوين كثيرة اتسمت برومانسية شعرية بارزة.
امتاز زمخشري بشعره الغنائي، حيث شدا بقصائده كبار الفنانين مثل: طلال مداح، ومحمد عبده، وطارق عبد الحكيم، وغازي علي، وعمر كدرس، وعبد المجيد عبدالله، وابتسام لطفي، وغيرهم.
واستحوذ المكان على شعرية زمخشري من خلال عدة قصائد أبرزها واحدة بعنوان: «جدة»؛ هذه المدينة التي فتنت زمخشري، الذي يعد من الجيل الأول الذي أسس حراكاً إبداعياً في السعودية، سواء في المجال الأدبي أو الإعلامي. عاش زمخشري مغترباً في مصر، ومنها انتقل إلى تونس، حيث كرمته الحكومة التونسية ومنحته وساماً رفيعاً.
من دواوينه: أحلام الربيع، وهمسات، وأنفاس الربيع، وأصداء الرابية، وأغاريد الصحراء، وعلى الضفاف، وألحان مغترب، وعودة الغريب، وفي الطريق، ومعازيف الأشجان، ولبيك، وحبيبي على القمر، ونافذة على القمر، والعين بحر، ورباعيات صبا نجد، والشراع الرفاف، وحقيبة الذكريات.
وقبل التطرق لقصيدته «جدة» نورد هذه الأبيات من شعر زمخشري، للدلالة على تجربة شعرية واثقة ورائدة بكل ما للكلمة من معنى:
تقسو عليّ بلا ذنب أتيت به
وما تبرمت لكن خانني النغم
أعاده شجن باح الأنين به
فهل يُلام محبٌ حاله العدم
حسبي من الحب أني بالوفاء له
أمشي وأحمل جرحاً ليس يلتئم
ارتبط زمخشري بالمكان، ويبدو ذلك جلياً في أشعاره التي جسدت جمال وعذوبة أمكنة عدة عاش فيها خلال طفولته وصباه، ومنها مكة المكرمة، وجدة؛ هذه المدينة التي توصف بعروس البحر الأحمر.
كانت جدة بالنسبة لزمخشري عروس البحر؛ مدينة توشحت بالجمال، وهي مسهدة الجفون تفتن عشاقها، فيهيمون بها حباً وصبابة، وهي أيضاً أشبه بغادة فارعة الطول، تتزيّن بأبهى الثياب في ليلة عرس، فتفيض جمالاً ودلالاً على أقرانها من الغيد الحسان، وهي بكل تأكيد منبع لأنقى المعاني وأصفاها وأرقّها.
لنتأمل قوله:
عروس بحر بالجمال توشحت
باتت مسهدة الجفون وسهرت
كم عاشقاً متولهاً في حبّها
تركته مشدوهاً بها وتبعدت
أم غادة هيفاء في أبهى الحلل
في ليل عرس للحبيب تزيّنت
تزهو على كل الحسان بحسنها
صوغ المعاني يممت ولها سعت.
مثل هذا الجمال الذي تزهو به مدينة جدة، هو في الواقع يمثّل ذاكرة طافحة بالأحداث والوقائع. ولا شك أن طفولة المرء في مكان ما، من العوامل الرئيسية التي تؤجج في الشاعر مكامن الحنين، سيما إذا كان مغترباً، وهو اغتراب سجلته قريحة الشعر عند شعراء كبار، أبدعوا قصائد متوهّجة ما زالت تعيش في الوجدان حتى اليوم.
ومدينة جدة بالنسبة لزمخشري، مدعاة لكل ألوان البهجة والسرور، لا يعكّرها غبار البعد، ولا يحول مرور الأعوام بينها وبين الازدهار والتألق، هذا الحنين يرصده الناقد الدكتور عبدالله باقازي، حين يصف زمخشري بأنه شاعر عفوي، بسيط منفتح على بهجة الدنيا، يُشرع نوافذ الأمل نحو ساحات الحياة الواسعة، ويجعل من الحياة بسمة عريضة من التفاؤل.
هل نتحدث في هذه القصيدة عن نوع من التوازن النفسي الذي كان زمخشري يبحث عنه، وهو يتذكر مدينته جدة. ربما يكون ذلك صحيحاً إلى أبعد الحدود، فالشعر حالة وجدانية خالصة مدعاة لجلب الراحة، وطرد كل أشكال الإحباط والمعاناة. وبهذه المناسبة فقد سبق لباقازي، أن علّق على قصيدة أخرى لزمخشري بعنوان: «إلى المروتين» بوصفها تشكّل نموذجاً شعرياً تحققت من خلاله كل المظاهر الشعرية، وهي قصيدة الاغتراب ومحاولة الوصول إلى «التوازن النفسي».
يقول زمخشري:
بشراك جدة غردي وتنعمي
خيرات آل سعود فيكي تعددت
عشاق بحركِ كلّهم يترنم
بالشعر من شتى القوافي خلدت.
مثل هذه العذوبة في قصيدة «جدة» واضحة تماماً، سواء بجرسها الموسيقي أو في انسيابيّتها الواضحة. وتقول الناقدة سلمى باحشوان في دراستها (المكان في شعر طاهر زمخشري): «إنه على على الرغم من كثرة الأماكن التي ذكرها زمخشري في شعره، وفي مسميات قصائده ودواوينه، فقد حظيت هذه الأماكن عنده بعناية فائقة. فإدراك جمال المكان مرتهن بالتقرّب من الذات المبدعة الشاعرة، ومرتهن بإدراك الوسائل التي اعتمدها الشاعر في جعل المكان يسكن في عبير الكلمة، وبقدرة المتلقّي على تذوّق العمل الفني، والتفاعل معه والتأثر به».
كم زائر استقبلته حفاوة
وضنّته شوق عندما هي ودعت
عاش الحبيب مقرباً من قلبها
وبحبه عاشت ولا يوم خلت
هي إذن حكاية زمخشري مع المكان، وهذه الحكاية هي بكل تأكيد حكاية حب تليق بجدة؛ هذه المدينة الجميلة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"