عادي

رينيه ديكارت.. الشكوكي المفكر أبو الفلسفة الحديثة

03:28 صباحا
قراءة 7 دقائق
إعداد: عثمان حسن

لأسرة من أصل هولندي، ولد رينيه ديكارت عام 1596 في مدينة لاهاي إن تورين الفرنسية.
تنتمي عائلة ديكارت إلى طبقة النبلاء، ومن أبرز شخصياتها جد ديكارت لأمه، الذي كان حاكم إقليم بواتيه في فرنسا، كما عمل والده في برلمان إقليم بريتانيا الفرنسي بصفة المستشار.
وفي عام 1604، التحق ديكارت بمدرسة تنتمي إلى الطائفة اليسوعية، وحظي فيها بمستوى عال من التعليم الفلسفي، إلى جانب الأدب والمنطق والأخلاق، وكذلك علوم الفيزياء والرياضيات، وكان لهذا المستوى من التعليم بلا شك أثره الكبير في تشكيل شخصيته العلمية.
رينيه ديكارت، الفيلسوف الفرنسي الشكوكي، الذي أراد للعالم أن يقتدي بشكوكه؛ ليحظى بمتعة الاكتشاف، هكذا خاطبنا فقال: «يحدوني الأمل في أن الأجيال القادمة سوف تحسن الحكم عليّ، ليس فقط للأشياء التي شرحتها؛ ولكن أيضاً لتلك التي غفلت عنها عمداً؛ لأترك للآخرين متعة الاكتشاف!».

حياته

حصل ديكارت على إجازة الحقوق من جامعة بواتيه، وشهادة ليسانس في القانون الديني والمدني.
بنصيحة من أبيه، رحل ديكارت إلى هولندا عام 1618؛ للالتحاق بالجيش الهولندي، المدرسة الحربية العريقة، التي كانت محطة معتادة للكثير من أبناء طبقة النبلاء في أوروبا، وهناك شارك في عدد من المعارك جندياً في صفوف الجيش الهولندي.
في هولندا بدأ اهتمام ديكارت بدراسة الفيزياء والرياضيات، بتشجيع ومشاركة من العالم والطبيب الهولندي إسحاق بيكمان، وفق نهج علمي جديد يطبق الرياضيات على الميتافيزيقا، ومن هنا انبثق فجر فلسلفة ديكارت وطريقته الفكرية.
لاحقاً، بدأ ديكارت مشواراً حياتياً مختلفاً وموازياً؛ حين قرر تصفية أملاكه والاستثمار في السندات المالية؛ وهو ما وفر له عائداً مالياً كفاه بقية عمره.
وخلال سنوات، تنقل ديكارت بين عدد من المدن الأوروبية؛ فاكتشف في ألمانيا الهندسة التحليلية، التي اشتهر بها؛ لكنه قضى في هولندا فترة كبيرة من حياته، مستفيداً من كونها آنذاك أغنى الدول الأوروبية وأكثرها ازدهاراً في العلوم والفنون، وفي هولندا تتلمذ ديكارت على ياكب يوليوس في علوم الرياضيات.
شهدت الفترة ما بين 1628 و1649 من حياة ديكارت نشاطه العلمي الأبرز؛ حيث قضى سنوات من البحث والتأليف في الرياضيات والفلسفة، في جو حياتي هادئ، مكنه من إنتاج القدر الأكبر من مؤلفاته في هذه الفترة الثرية.

في وجه معارضيه

خاض العلماء المجددون في تلك العصور معركة غير متكافئة، اضطروا فيها لمواجهة محاكم السلطة وسطوة الكنيسة، ورفض المجتمع في كثير من الأحيان، غير متسلحين إلا بعزيمتهم وتمسكهم بما آمنوا به من أفكار.
سبق ديكارت - وعاصره أيضاً - تاريخ من الأبحاث الثورية في علوم الطبيعة، ما قدمه كوبرنيكوس وكبلر وجاليليو، لا سيما في حركة الأجرام السماوية والنظام الشمسي.
ديكارت نفسه بدأ كتابة رسالة مهمة باسم «العالم»؛ لكنه تردد في إكمالها وأوشك أن يحرق الأوراق، التي حررها، إثر قرار المحكمة والكنيسة بإدانة جاليليو، العالم الإيطالي الكبير، عام 1633.
خشي ديكارت أن يواجه مصير جاليليو، وبلغ به الأمر أن قرر الانقطاع عن الكتابة بالكلية، كما أنه تعرض لقرار مماثل من الرفض لأفكاره في الفلسفة عام 1643، لكن الفرق أن هذه الإدانة صدرت عن مؤسسة علمية أكاديمية، هي جامعة أوتريخت الهولندية.
لحسن الحظ، لم يطل الأمر بديكارت حتى أدرك أنه لا يمكن أن ينقطع عن الكتابة. ولعل ما ساعده على ذلك أن آراءه الفلسفية والعلمية الأولى بدأت تشق طريقها في المجتمعات الأوروبية، التي أخذت شيئاً فشيئاً تتقبل أفكار المجددين، وتتشوق للمزيد منها.
انكب ديكارت على الكتابة من جديد، فألف ثلاث رسائل في الرياضيات والطبيعة والهندسة، وأصدر كتاباً علمياً عام 1636؛ لكنه لم يضع اسمه على غلافه.
وفي عام 1641 وضع ديكارت مذهبه الفلسفي وتطبيقاته على الميتافيزيقيا، ثم أهدى كتابه هذا، الذي حمل اسم «تأملات في الفلسفة الأولى»، إلى الأميرة إليزابيث البلاتينية.
جرت مراسلات بين ديكارت والأميرة إليزابيث عرض فيها آراءه الفلسفية، وتمت بينهما مناقشات في السياسة والأخلاق، كما أجرى مراسلات مشابهة مع الملكة كريستينا، ملكة السويد، التي سافر إلى العاصمة السويدية استوكهولهم بدعوة منها، حين طلبت عونه ومشورته في الإدارة والحكم.
أصيب ديكارت خلال سنواته في البلاط الملكي السويدي، بالتهاب رئوي؛ بفعل أجواء البلاد الباردة، التي يبدو أنه لم يحتط لها كما يجب، كما رفض دواء الأطباء ونصائحهم، مفضلاً أن يتولى علاج نفسه بنفسه، إلى أن مات بمرضه عام 1650.

الفلسفة الشكوكية

ديكارت هو في طليعة المفكرين، الذين يرفعون لواء ما بات يعرف بالفلسفة الشكوكية، وربما جاز القول إنه الأكثر شكوكية؛ حيث يقرر مذهبه أن الشك هو الطريق إلى اليقين، وقد اقتضى هذا منه أن يضع سؤال الشك حتى في ما توصل إليه هو نفسه؛ ليهتدي إلى صحة ما وصل إليه، مقرراً أن خلاف ذلك لا يفتح له السبيل إلى اكتشاف الحقيقة.
شك ديكارت في المعرفة التجريبية، التي تأتي عن طريق الحواس؛ باعتبارها معرفة متغيرة غير ثابتة؛ بحكم تغير الحواس وما يطرأ عليها من ظروف طبيعية تؤثر في قرارها؛ أي في المعرفة التي تنبني عليها.
هناك مقولة شهيرة لديكارت توجز الكثير من فلسفته الشكوكية؛ وذلك حين قال: «بحثت في الوجود فلم أجد موجوداً إلا أنا، أنا أفكر إذاً أنا موجود، وكل موجود لا بد له من موجد، فمن الذي أوجدني؟ لا يجوز أن يكون الذي أوجدني أقل مني؛ لأنه لا يجوز أن يقدر الأدنى على خلق الأعلى، ولا يجوز أن يكون الذي خلقني مساوياً لي؛ لأنه لو كان مساوياً لي، فلماذا لم أوجده أنا؟ ونكون نحن متساويين، إذاً لا بد أن يكون الذي أوجدني أعلى مني، وليس هناك أعلى مني إلا الله».
إذن، ديكارت يشك، وشكه هذا هو التفكير الذي يقصده، وهو الشيء الوحيد الذي لا يشك فيه، كأنك تقول إنه لا يشك في الشك1.
وقد بنى على ذلك وجوده، الذي انبنى عليه بالتالي الاعتقاد بوجود الخالق الأعلى

مؤلفاته

الفلسفة هي الموضوع الأثير عند ديكارت، وهي أساس منهجه وتفكيره، فكتابه «انفعالات النفس»، وصدر عام 1649 وأهداه إلى ملكة السويد كريستينا، يعد من أهم كتبه الفلسفية، ويتناول من خلاله فكرة الروح ويحاول إثباتها بشكل علمي، وهو من الكتب التي تجيش بالمشاعر، التي أخضعها ديكارت للتحليل، وقد سبق للفلاسفة الطبيعيين أن جادلوا بشأن هذه المشاعر منذ أفلاطون وما بعده، أما قصة ملكة السويد فتذكر المصادر أنها كانت مهتمة كثيراً بالفلسفة، التي كان يتبناها ديكارت، وقد دعته للسويد؛ ليكون عوناً لها في إدارة الحكم وشؤون البلاد كمستشار.
«التأملات في الفلسفة الأولى».. هو أحد كتبه المهمة، ويعد الأفضل ضمن المصنفات الفلسفية، التي عرفها تاريخ هذا العلم؛ لما فيه من تأملات ستة تلخص منهجه في التحليل الفلسفي، في كثير من الموضوعات؛ كالنفس والجسد والمادة والصدق والكذب ووجود الفكر، وتتداخل موضوعات الكتاب حين تنتقل التأملات من موضوع إلى آخر مروراً بإثبات وجود الذات المفكرة وغيرها.
«مقالة الطريق».. كتبه ديكارت باللغة الفرنسية، وناقش موضوعات في العلوم والفلسفة والعقل والبحث عن الحقيقة والفلسفة وما بعد الطبيعة.
«قواعد لتوجيه الفكر»، وهو كتاب يشرح القواعد الأساسية التي توصل إليها ديكارت؛ لتوجيه الفكر الإنساني نحو معرفة أفضل.
«عن المنهج العلمي».. وفيه ضوء على الفكر الأوربي، مع عرض لفلسفته عن وجود الذات، ويتضمن قراءة تحليلية منهجية جديدة عن العالم المادي والطبيعة البشرية والحيوانية، وقد كتب بلغة بسيطة ليقرأه عامة الناس.

شكوكيون سابقون

من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في «متاهات العمى».. هذه المقولة هي للمفكر الإسلامي أبي حامد الغزالي، الملقب بحجة الإسلام، والذي عاش في القرن الميلادي الحادي عشر، أي قبل عصر ديكارت ببضعة قرون.
ويرى عدد من الدارسين أن ديكارت إنما نهل من فكر الغزالي ومنهجه في البحث والاعتقاد.
«الشك علمني اليقين»، هكذا تشكل منهج الغزالي، وفلسفته الشكوكية، وسيلة للإيمان، وتعد طريقاً فكرياً؛ لتمحيص المعرفة والخلوص إلى الحقيقة.
ويظهر جلياً أن نور مشعل الفلسفة الشكوكية، الذي حمله ديكارت إنما يصدر عن تلك المشكاة.
قبيل عصر الغزالي، عاش عالم موسوعي ومفكر إسلامي آخر هو الحسن بن الهيثم، الذي لم يقتصر علمه على البصريات، ميدانه الأشهر.
أخذ ابن الهيثم عن الفلسفة اليونانية، فدرس واستلهم، ثم أصّل وطور، كل ذلك هو سعي من أجل المعرفة، وتفكر في محراب الحقيقة.. وها هو يقول: «سعيت دوماً نحو المعرفة والحقيقة، وآمنت بأني لكي أتقرب من الله، فليست هناك طريقة أفضل من أن أبحث عن المعرفة والحقيقة».

من أقواله

* عمليتا الفهم؛ الحدس والاستنباط، يجب أن نعتمد عليهما وحدهما في اكتساب المعرفة.

* المبدأ الأول عندي أنني لا أقبل بأي شيء على نحو صحيح حتى أعلم أنه على هذا النحو من دون أي شك.

* إذا أردت أن تكون باحثاً صادقاً عن الحقيقة، فمن الضروري أن تشك، بما لا يقل عن مرة واحدة في حياتك، في كل الأشياء.

* كل شيء يجب أن يكون واضحاً بذاته لذهننا.

* لا يعد حقيقة إلا ما هو معترف به بوضوح وتمييز.

* في كل مرحلة يجب التأكد والضبط بحيث لا نترك شيئاً يفلت من يقظة الفكر، وهكذا نصبح قادرين على استخلاص استنتاج فلسفي.

* كل مشكلة قمت بحلها أصبحت قاعدة استعملتها بعد ذلك لحل مشاكل أخرى.

* حواسنا خدعتنا في ملابسات عدة، وليس من الحكمة أن نثق في من خدعنا، ولو لمرة واحدة.

* كلما أساء لي شخص، أحاول أن أرفع روحي عالياً حتى لا يمكن أن تصل إلي الإساءة.

* «أنا أفكر، إذاً أنا موجود».. يقول هذا صاحب مبدأ الشك؛ لكنه شك إجرائي، له غايته المنهجية، وهي اليقين، الذي لا يتحقق لديه إلا بهذا المذهب الفلسفي الرياضي؛ هو أبو الفلسفة الحديثة، الذي شك في حواسه وما يصدر عنها من معارف «متغيرة»، وآمن بوجوده من حيث شكه «تفكيره»، فاهتدى إلى الموجد الأعلى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"